السؤال:
ما هي أهمُّ أحكام قنوت النوازل في الصلوات؟ وهل يُشرع القنوت للمستضعفين في سورية رغم مرور سنواتٍ على الثورة؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمّا بعد:
فقد شرع الله تعالى القنوت في الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة، واشتدت بهم المحن؛ تضرعًا إلى الله تعالى أن يرفعها، إلى أن تزول، وفيما يلي بيان أهم أحكامه:
أولاً: يُستحب للمسلمين عند نزول نازلة مِن الشدائد والمحن مِن حضور عدو، أو الخوف منه، أو وقوع بعضهم في الأسر، أو تسلُّط حاكمٍ ظالمٍ عليهم: أن يقنتوا في الصلوات لرفع هذه النازلة، فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قنت بأصحابه شهراً على قبائل مِن العرب غدروا بسبعين مِن أصحابه رضي الله عنهم وقتلوهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رِعْل وذَكْوان) متفق عليه واللفظ للبخاري.
قال ابن تيمية: "القنوتُ مسنونٌ عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين".
ثانياً: يُشرع القنوت عند النوازل في جميع الصلوات المفروضة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في النوازل في الصلوات الخمس كلها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً مُتتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كلِّ صلاة..) رواه أحمد وأبو داود.
قال النووي في "شرح مسلم": "والصحيح المشهور أنه إذا نزلت نازلةٌ كعدو وقحط ووباء وعطش وضرر ظاهر بالمسلمين ونحو ذلك، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبات".
ولكن أكثر قنوته صلى الله عليه وسلم كان في صلاة الفجر، قال ابن القيم في "زاد المعاد": "كان هديه - صلى الله عليه وسلم - القنوت في النوازل خاصة، وترْكَه عند عدمها، ولم يكن يخصُّه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها".
ولا يُقنت في النوافل لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي في "المجموع": " وأما غيرُ المكتوباتِ فلا يُقنَتُ في شيءٍ منهنَّ ".
وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يُقنت في صلاة الجمعة، اكتفاءً بالدعاء في الخطبة، ولأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فيها، قال ابن عبد البر في "الاستذكار": "وليس عن أحد مِن الصحابة أنه قنت في الجمعة".
وقال البهوتي في "شرح منتهى الإرادات": "...القنوت (فيما عدا الجمعة) مِن الصلوات لرفع تلك النازلة، وأمّا الجمعة فيكفي الدّعاء في الخطبة".
ثالثاً: قنوت النوازل إنما يكون في الركعة الأخيرة، ويجوز أن يكون قبل الركوع أو بعد الرفع من الركوع، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً مُتتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كلِّ صلاة إذا قال (سمع الله لمن حمده) مِن الركعة الآخرة...) رواه أبو داود وأحمد.
وعن عبد الرحمن بن أبزى قال: (صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الصبح فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع: اللهم إياك نعبد...) رواه البيهقي.
فالأمر في هذا واسع، ولذلك بوَّب البخاري بقوله: "باب القنوت قبل الركوع وبعده"، وإن كانت أحاديث القنوت بعد الرفع أكثر، فهو أولى، قال البيهقي في "السنن الكبرى": "ورواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ، فهو أولى وعلى هذا درج الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في أشهر الروايات عنهم وأكثرها".
رابعاً: مِن السنن في دعاء القنوت:
1- أن يكون مناسباً للمقام، يسيراً ليس فيه إطالةٌ ولا تكلّف، ولا يوجد دعاءٌ معينٌ للقنوت، وإنّما يُدعى بما يُناسب المقام، عن محمد بن سيرين، قال: سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أوقنت قبل الركوع؟ قال: "بعد الركوع يسيراً" رواه البخاري ومسلم.
قال المباركفوري في "مرعاة المفاتيح": "واعلم أنه لم يثبت في الدعاء في قنوت النازلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف والخلف دعاءٌ مخصوص متعين".
قال ابن تيمية: "وينبغي للقانت أن يدعو عند كلِّ نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمَّى مَن يدعو لهم مِن المؤمنين ومَن يدعو عليهم مِن الكافرين المحاربين كان ذلك حسناً".
ويُستحسن أن يحاكى قنوتُ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيُدعى بأدعية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكونها أجمع وأبلغ، مع تغيير الأسماء بما يناسب النازلة؛ كأن يُقال: اللهم أنج المستضعفين مِن المؤمنين في بلاد الشام، اللهم اشدُد وطأتك على النظام وأعوانه، واجعلها سنين كسني يوسف، ونحو ذلك مِن الأدعية.
2- يسن جهر الإمام بالقنوت ليؤمّن المصلون عليه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع، فربما قال: "إذا قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف" يجهر بذلك) رواه البخاري.
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وظهر لي أنّ الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أنّ السجود مظنة الإجابة كما ثبت (أقربُ ما يكون العبد مِن ربه وهو ساجد) وثبوت الأمر بالدعاء فيه أنّ المطلوب مِن قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمامَ في الدعاء ولو بالتأمين، ومِن ثمَّ اتفقوا على أنه يجهر به".
3- يسن تأمين المأموم على دعاء الإمام في قنوت النازلة، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (... يدعو على أحياء مِن بني سليم على رِعل وذَكوان وعُصية ويُؤَمِّن مَن خلفه) رواه أحمد وأبو داود.
4- يسنُّ رفعُ اليدين في دعاء القنوت، لحديث أنس رضي الله عنه قال: (...فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء قط، وَجْدَه عليهم، فلقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كلّما صلّى الغداة رفع يديه فدعا عليهم) رواه الإمام أحمد، وقال النووي: "رواه البيهقي بإسناد له صحيح أو حسن".
وعن أبي رافع قال: (صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقنت بعد الركوع، ورفع يديه، وجهر بالدعاء) رواه البيهقي وقال: "هذا عن عمر صحيح".
خامساً: يشرع دعاء القنوت عند نزول النازلة إلى أن يكشفها الله سبحانه وتعالى، قال الماوردي في "الحاوي الكبير": " وكذلك إن نزلت بالمسلمين نازلة ... فلا بأس أن يقنت الإمام في سائر الصلوات حتى يكشفها الله تعالى".
فإن طالت النازلة ولم ترفع، ومرّ عليها سنوات، فيبقى القنوت مشروعاً، ويجوز له أن يترك القنوت في بعض الأوقات كهدوء النازلة، أو أوقات الهُدن ونحو ذلك، لكن يتأكد القنوت عند تجدد النازلة، كاشتداد المعارك، أو شدّة القصف، أو ازدياد الضحايا بالقتل أو الأسر؛ لأنّ دعاء القنوت مشروعٌ لعلةِ وجودِ النازلة، والقاعدةُ أنّ الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فما دام أنّ النازلة موجودة فالقنوت يستمرّ حتى يزول العارض وترتفع النازلة، فإذا زالت العلة وارتفعت النازلة ترك القنوت.
قال الزركشي في تشنيف المسامع: "فالأحكام الشرعية نوعان:....الثاني: نوع معلَّقٌ على الأسباب، وهي الأحكام التي ثبتت شرعاً معلقةً على أسبابها، فهذا النوع مِن الأحكام يتغير بتغيُّر الأسباب، فالحكمُ يدور مع علته وجوداً وعدماً فيتغير بتغير العلة".
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "الحكم يدور مع علته وسببه وجوداً وعدماً ، ولهذا إذا علَّق الشارع حكماً بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالهما".
وقد ذكر العلماء أنّ القنوت إنما ينقضي بارتفاع النازلة:
قال الطبري في "تهذيب الآثار": "فالقنوتُ - إذا نابت المسلمين نائبةٌ، أو نزلت بهم نازلة ... ، إلى أن يكشف الله عنهم النازلة التي نزلت، إما بالظفر بعدوهم الذي كان مِن قِبَلِهم النازلة، وإما بدخولهم في الإسلام ، أو باستسلامهم للمسلمين ، أو بغير ذلك من الأمور التي يكون بها الفرج للمسلمين مِن مكروهِ ما نزل بهم - سنةٌ حسنةٌ، وإن كانت النائبة والنازلة سبباً غير ذلك فإلى أن يزول ذلك عنهم".
وأما قنوت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً فليس مقصوداً منه التحديد ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك القنوت لَمَّا زال سببه، وذلك بقدوم مَن قنت لهم ونجاتهم، كما يدلُّ على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركعة في صلاة شهراً، إذا قال: «سمع الله لمن حمده»، يقول في قنوته: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم نَجِّ سلمة بن هشام، اللهم نجِّ عياش بن أبي ربيعة، اللهم نجِّ المستضعفين مِن المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» قال أبو هريرة: "ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعدُ، فقلت: أُرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم، قال: فقيل: وما تراهم قد قدموا) رواه مسلم.
قال ابن القيم في "زاد المعاد": "إنما قنت عند النوازل للدعاء لقومٍ، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم مَن دعا لهم، وتخلّصوا مِن الأسر، وأسلم مَن دعا عليهم وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت".
ختاماً: ينبغي التنبه إلى أهمية الدعاء في نصرة الأمة الإسلامية، فالنصر ليس بالكثرة العددية ولا بالقوة المادية، بل النصر منحة ربانية يهبها الله سبحانه تعالى لمن شاء من عباده، غير أنه لا يجوز للأمة أن تقتصر على الدعاء فقط في نصرة قضاياها، والوقوف عند هذا القدر من طاعة الله، بل لابد مِن الأخذ بسائر الأسباب الممكنة لاستعادة حقوق المسلمين عند القدرة، أو الإعداد لاستعادتها، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
نسأل الله تعالى أن يكشف عنا البلاء وعن جميع بلاد المسلمين، وأن يؤيدنا بنصرٍ مِن عنده إنه سميع قريب مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.