ربما أصبح من الصعب تعداد الكوارث التي حلت بالشعب السوري بعد أن تكالبت عليه قوى الشر العالمية قصفا واعتقالا وتشريدا وتآمرا وخذلانا، تحل كارثة فيضج الإعلام المحلي والعالمي حولها أياما معدودة، ثم تخفت الأصوات شيئا فشيئاً ولا تعلو إلا بحلول كارثة جديدة.
لكن المؤلم أن كارثةً من هذه الكوارث –وربما أعظمها وأطولها أثراً- بدأت مع بداية التعامل العسكري مع الثورة واستمرت حتى الآن، ولا يكاد الإعلام يتحدث عنها إلا لماماً.. ولا توليها الدول ولا المنظمات المسؤولة ذلك الاهتمام المطلوب.. ألا وهي (كارثة التعليم في سوريا).. تلك الجريمة التي تجري بصمت وتجاهل، وتمر الشهور والسنين على ضحاياها المساكين من الأطفال والفتيان والشباب، وهم لا يشعرون بما تخبئ لهم الأيام المقبلة.
ولأهمية هذا الموضوع وخطورته، طرحته مجلة (نور الشام) على طاولة المختصين، وتناولته معهم بالبحث والتمحيص ورصد ما يخفف من وقع هذه الكارثة من حلول ومقترحات.
في البداية تحدث الأستاذ عبود الحسين المدير العام لمؤسسة شفق شام الخيرية، مجيبا عن سؤالنا عن أعداد الطلاب السوريين المحرومين من الدراسة، في الداخل السوري المحرر، وأسباب الحرمان، فقال: "حسب وزارة التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة فإن عدد الطلاب الكلي في التعليم ما دون الجامعي في سوريا (الداخل) هو مليون و500 ألف طالب، وأعداد الطلاب المداومين 670.773 طالباً، أي بنسبة 45%، وبالتالي يكون أعداد الطلاب المحرومين 829.227 أي بنسبة 55% شكّل التعليم الأساسي النسبة الأكبر من العدد الكلي للطلاب (من 70% إلى 75%).
ويضيف: "يعاني قطاع التعليم من ضرر كبير في مختلف المستويات في ظل الحرب المستمرة منذ 6 سنوات، والواقع أن الضرر لا تستطيع المؤسسات السورية الحالية إصلاحه، ويحتاج إلى تضافر جهود دولية، ولاسيما عربية وإسلامية لتجنيبه أولاً مزيدًا من التدهور، ومساعدته ثانيًا على التعافي والنهوض، وهذا يقتضي أن يكون الدعم مستداماً، وفي سبيل ذلك تسعى المؤسسات التعليمية السورية إلى تقوية نفسها من خلال بناء كيان موحد يجمع طاقاتها وخبراتها لتكون على قدر التحديات والمسؤوليات التي تواجهها".
ويستطرد الحسين موضحا أسباب حرمان أكثر من نصف الطلاب السوريين من الدراسة: "يواجه أطفالنا في المناطق المحررة سياسة تجهيل متعمّدة، فقد أضحى كثير من أبنائنا خارج صفوف المدارس يسيرون إلى مصير غير معلوم، وقد أسهمت عوامل عدة في إيصال الأمر إلى ما هو عليه، رغم السعي الحثيث لبعض الشرفاء لرأب هذا الصدع بما أوتوا من إمكانات متواضعة؛ ومن هذه العوامل: القصف الوحشي المستمر على المؤسسات التعليمية، الذي أوجد حالة من الرعب عند الأهالي وعند الأطفال أنفسهم، وإفراغ المدارس والتنقل بالطلاب إلى أقبية وبيوتات متفرقة وذلك أخذًا بأسباب الحيطة؛ ما أدى إلى نقص كبير في عدد الطلاب وكذلك نقص كبير في الكوادر التعليمية وخاصة مدرسي المواد العلمية، وذلك نتيجة الهجرة؛ ما دفع إلى الاعتماد على حملة الشهادة الثانوية العامة في كثير من الأحيان لملء هذا الفراغ.
ومن العوامل –أيضا- تعدد المنظمات الداعمة للتعليم والتباين في أهدافها واستراتيجياتها وتمويلها، وانتهى الأمر مؤخرًا بتناقص الدعم، وإحجام المنظمات عن التبرع (خوف تهمة الإرهاب)، وأغلب المنظمات الداعمة تدعم مشاريع قصيرة الأجل وليس لها استراتيجية طويلة، كما أن المنظمات العربية الداعمة لديها صناديق زكاة ولا تعتبر التعليم مستحقًا لمال الزكاة فصندوق التعليم أفقر صندوق، كما أن بعض البنوك تضع العراقيل أمام الداعمين للتعليم في الداخل السوري.
ويضاف إلى تلك العوامل –كذلك- ضعف الرواتب التي يتقاضاها المعلمون ما دفع كثيرًا منهم إلى ترك التعليم والتحول إلى مهنة أخرى أو إلى الهجرة، وضعف الدورات التأهيلية التي تقام للمعلمين والإداريين، مع ضعف الإدارة التربوية المركزية عن متابعة عملها بجدية".
القصة من البداية
كيف بدأنا؟ وكيف وصلنا إلى هذه الحال؟
يقول الأستاذ: أحمد الحاج عمر، مدير المجمع التربوي في اعزاز: "انطلق التعليم الحر في الشمال السوري عام 2013م عبر المكاتب التعليمية التابعة للمجالس المحلية، ثم الهيئة الوطنية للتعليم، وأُجريت أول دورة امتحانية في عام 2013م تحت مسمى (الهيئة الوطنية للتعليم)، وفي عام 2014م أُحدثت مديرية حلب الحرة عن طريق مجلس محافظ حلب، وشُكِّلت المجمعات التربوية التابعة لها، ومنذ عام 2014م وحتى وقتنا الحاضر يتم العمل ضمن هذه المجمعات التي يبلغ عددها 12 مجمعا".
ويوضح الحاج عمر أن المجمعات الواقعة في الشمال السوري هي مجمعات: اعزاز وتل رفعت ومارع، مشيرا إلى أن القرى الشرقية كانت محتلة من قبل داعش لكن بعد أن تحررت أنشئت فيها مجمعات مثل صوران وأخترين والباب والراعي وجرابلس، "لكن التعليم فيها في بداياته" كما يقول، ويضيف: "وبالنسبة لتل رفعت فقد انتقل التعليم في السنة الحالية إلى المخيمات العشوائية بعد احتلال المدينة من قبل ميليشيات البي يي دي الكردية الانفصالية وتركز التعليم فقط في المخيمات وفي مدينة اعزاز حيث عانينا اكتظاظا شديدا بسبب نزوح أغلب القرى إلى المنطقة".
ويقول: "هناك بعض المنظمات العاملة على الأرض مثل منظمة كومنيكس والإن آر سي تقوم بدعم التعليم، وهناك بعض المنظمات التي تعمل على الدعم النفسي وتكاد تكون مبادرات خجولة عدا منظمة كومنيكس التي قامت بتغطية رواتب المعلمين على مدة عامين متتالين بحدود 100 دولار لكل معلم، وغطت بحدود 8000 معلم على كامل أراضي القطر العربي السوري، نصيب الشمال منها بحدود 1500 معلم".
مدارس في مرمى النيران
ويصف الحاج عمر واقع المدارس في الداخل المحرر بأنه "صعب" عازياً ذلك إلى الاستهداف المباشر والمتعمد للمباني من قبل الطيران الحربي، ويوضح: "لقد تم استهداف (156) مدرسة عام 2015م وحده، وذلك بحسب توثيق اللجنة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها السنوي الرابع عشر لحالة حقوق الإنسان في سورية، كما تم استهداف (35) مدرسة خلال بداية عام 2016م بموجب إحصاءات الحكومة المؤقتة".
ويضيف: "هذه الحال أجبرت القائمين على العملية التعليمية على استخدام أقبية الأبنية مدارس لتعليم الطلاب مع ما يتضمنه ذلك من ظروف غير مثالية للتعليم من حيث الصحة العامة والإضاءة، ومعلوم ما يترتب على ذلك من أعباء مالية إضافية كتكاليف التجهيز والتأسيس، حيث يُقدر عدد المدارس العاملة بـ (2281) مدرسة في المناطق المحررة. وقدمت مؤسسات عدة -سورية ودولية- منحًا لمشاريع ترميم جزئي للمدارس وإصلاح البنية التحتية لها ضمن خططها في الاستجابة للأزمة الإنسانية في سورية".
من جانبه، يقول الأستاذ محمد مصطفى، مدير التربية الحرة بحلب: "لدينا ما يقارب (150) ألف طالب موجودون في (600) مدرسة يعلمهم حوالي (8000) معلم ومعلمة"، مشيرا إلى أن مديرية التربية والتعليم في حلب لها مجمعات تنفيذية ومجمعات تربوية عددها (15) مجمعا، وهي تشرف على التعليم في الريف الشمالي والغربي والجنوبي والشرقي، و"كانت سابقا تشرف –أيضا- على التعليم في القسم المحرر من مدينة حلب، حيث كان مقر المديرية الأساسي في مدينة حلب، وتحول الآن إلى الريف الغربي، ولنا مكاتب في الريف الشمالي".
ويشير الأستاذ أحمد الحاج عمر إلى أن المدارس تعاني أوضاعا سيئة متنوعة: منها ما يعاني دمارا كاملا، ومنها ما يعاني دمارا جزئيا، ومنها ما هو محتاج للصيانة، ويضيف: "الواقع الحالي لا يتمتع بالمناخ الجيد لتأمين التعليم المناسب، لكن المدارس -ضمن الإمكانيات وظروف الحرب- مقبولة لحد ما"، ويتطرق إلى أعداد الطلاب موضحا أن عدد طلاب الريف الشمالي بحدود (50) ألف طالب، ونسبة التسرب بينهم تشكل حوالي 50%، وكلما ارتفعت المرحلة الدراسية زاد التسرب، ففي المرحلة الثانوية تصل نسبة التسرب إلى 80% وفي الإعدادي إلى 60% أما الابتدائي يكاد يكون 25%.
ويوافقه في ذلك الأستاذ عبود الحسين مضيفاً: "فعلا.. معظم المدارس تحتاج إلى إعادة تأهيل بسبب القصف، كما يوجد نقص حاد في التجهيزات الأساسية (مقاعد – سبورات - تجهيزات مكتبية...إلخ)، إضافة إلى نقص حاد في الكتب المدرسية، ونقص في الكادر التعليمي، هذا غير تدني رواتب المعلمين وعدم انتظامها بسبب ارتباطها بالدعم".
ويستطرد قائلا: "هناك أسباب في تعطيل المدارس تعود للظروف السيئة التي يعانيها الأهالي، كاضطرارهم للنزوح القسري بسبب الوضع الأمني غير المستقر وحدوث انقطاعات مفاجئة، أو بسبب الفقر الشديد الذي يجبر بعض الأهالي إلى دفع أولادهم إلى سوق العمل وعدم إرسالهم إلى المدارس".
دور الحكومة المؤقتة
وما دور الحكومة السورية المؤقتة أما هذا الوضع؟ يقول الحسين: "في الحقيقة أن الحكومة السورية المؤقتة تقف عاجزة أمام حجم الكارثة التي حلّت بمختلف القطاعات وعلى رأسها التعليم، ولا يوجد باعتقادي أي إمكانية لتغيير جذري دون دعم دولي يتناسب مع حجم الكارثة، ومن الممكن بتوافر الإمكانيات أن تستقطب بعض الخبرات المتناثرة هنا وهناك في الداخل والخارج ووضع أسس وخطط تعيد للتعليم ألقه ومكانته وتنهض به من جديد".
من جانبه، يوضح الأستاذ أحمد الحاج عمر مدير المجمع التربوي في اعزاز، أن الحكومة المؤقتة قامت بتأمين عقد مع مشروع (إدارة) يؤمّن مبلغ (100) دولار راتباً للمعلمين المرتبطين بمديريات التربية الحرة في محافظاتهم والبالغ عددهم نحو (8222) معلما، مشيرا إلى أن هذا العقد تم عن طريق الوزارة ثم المجمعات التعليمية.
ويقول الأستاذ محمد مصطفى مدير التربية الحرة في حلب، مضيفاً على ما ذُكر: " وزارة التربية في الحكومة السورية المؤقتة هي التي أصدرت قرار تكليف مديرية التربية والتعليم، وعملنا يتم بالتنسيق الكامل معهم، كما أن الوزارة هي التي تشرف مباشرة على الاختبارات، ومنها –على سبيل المثال- الامتحانات العامة لصفوف التاسع والبكالوريا الإعدادي والثانوية في المحافظات المحررة كلها وفي مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن، فالحكومة المؤقتة تقدم الأنظمة والقوانين، وتضع السياسة العامة، وتشرف على الامتحانات العامة، ويتم التنسيق معها في كل شيء؛ فالمديرية تتبع الوزارة تبعية فنية رسمية".
ويضيف: "هناك اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين مديرية التربية والتعليم ومجموعة من المنظمات الدولية، حيث تم التفاهم على أن تكون القوانين والأنظمة التي أقرتها المديرية هي القوانين والأنظمة السارية"، ويشير مصطفى إلى أن الجهود التي تبذل الآن فيها تكامل؛ فمديرية التربية والتعليم تشرف على المدارس، وهي تدفع حاليا رواتب خمسة آلاف معلم ومعلمة في محافظة حلب، بينما تشرف المنظمات على مدارس أخرى وتقدم رواتب ثلاثة ألاف معلم ومعلمة تقريباً، مؤكداً أن نظام عصابة بشار الأسد ليس له وجود في قطاع التعليم في محافظة حلب، إذ لا يشرف النظام على أي مدرسة فيها، ولا يوجد أي معلم في المحافظة يتقاضى راتبا من النظام.
جهود دولية محدودة
ويؤكد الأستاذ عبود الحسين على دور المنظمات الدولية في دعم تعليم السوريين، فيقول: "تسهم المنظمات الدولية الحكومية، وغير الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني الوطنية والإقليمية في مختلف مجالات التعليم، ويرجع ذلك إلى الحاجة المتعددة المستويات لتطوير التعليم وتمويله، وقد ظهرت مؤسسات دولية وإقليمية عدة، باتت تلعب دورًا رئيسًا في تمويل قطاع التعليم عبر منظمات متخصصة في المناطق المحررة من سوريا، وتسهم في تمويل التعليم للاجئين، منها على وجه الخصوص منظمة اليونسكو واليونيسيف، ومنظمة أوتشا (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA)، ووحدة تنسيق الدعم (ACU)، وصندوق الائتمان (Syria Recovery Trust Fund)، ومنظمة آفاد (AFAD) الحكومية التركية، ومنظمة ديفيد الحكومية البريطانية، ومنظمة (USAID) الأمريكية، وظهرت منظمات سورية (مسجلة في تركيا ولبنان) متخصصة في التعليم، منها هيئة علم (2013)، ومؤسسة اقرأ التعليمية (2014) إحدى مؤسسات شفق شام، ومؤسسة تعليم بلا حدود (2015)، وألفابت (2016)، وأسهمت منظمات عاملة في الإغاثة مثل هيئة الشام الإسلامية (سورية) ومنظمة (IHH) التركية في التعليم من منطق الإغاثة. كما أسهمت منظمات دولية غير حكومية مثل كومينيكس وكرييتف (أمريكيتان) وسبارك (هولندية) و جي آي زد (ألمانية) في تمويل التعليم ومشاريعه".
لكن الأستاذ الحسين يستدرك قائلا إن نشاطات هذه المنظمات مهددة في كل لحظة بسبب الأزمات في المنطقة وعدم الاستقرار، ومما يزيد وضعها سوءا الإحجام عن التبرع (خوف تهمة الإرهاب) وتحويل الأموال، كما أن أغلب المؤسسات الداعمة تدعم مشاريع قصيرة الأجل وليس لها استراتيجية طويلة.
ويضيف: "ومما يحد من أعمال المنظمات أن المؤسسات العربية الداعمة لديها صناديق زكاة ولا تعد التعليم مستحقًا لمال الزكاة، فصندوق التعليم أفقر صندوق، كما أن بعض المؤسسات المنفّذة السورية أظهرت عدم الكفاءة وخسرت ثقة الداعمين، بينما أكدت بعض المؤسسات المنفذة من خلال ممارساتها أنها منفِّذ لسياسات خارجية وليست ذات سياسة أو استراتيجية ذاتية، يأتي هذا إلى جانب القيود القانونية على التعليم في دول اللجوء، وقيام بعض البنوك بوضع العراقيل أمام الداعمين للتعليم في الداخل السوري (ضعف التنسيق مع وزارة التربية الحرة)، إضافة إلى الدعم الخارجي المتغيّر".
وعلى الصعيد ذاته، يقول الأستاذ محمد مصطفى: المنظمات غير الحكومية و منظمات المجتمع المدني أيضا بذلت جهودا كبيرة في دعم التعليم وتنظيمه ومتابعته، لكن الملاحظ في هذا الجانب أن هنالك تشتتا واختلافا في هذا الأمر، ومن ذلك - على سبيل المثال – أننا نجد فروقات كبيرة بين المنظمات فيما تقدمه من رواتب للمعلمين، فهناك منظمات تدفع ثلاث مئة دولار للمعلم، وهناك منظمات تدفع خمسين دولاراً، كما أن الخدمات المقدمة تتفاوت من منظمة إلى أخرى؛ فهناك منظمات تتولى أمور المدرسة بكل التفاصيل: المصاريف التشغيلية، والرواتب، والمكافآت، وجوائز الطلاب وهداياهم، وقرطاسية المعلم والطالب، وغيرها، بينما هناك منظمات تقدم راتبا ومعه مصاريف تشغيلية فقط، فلا يوجد شيء موحد".
ويؤكد مصطفى أن هذه الفروقات تسبب إشكالات اجتماعية ونفسية، وتسبب تنافسا على المدارس الممولة من قبل المنظمات، وتسبب نزيفا في الشهادات وذوي الكفاءات من مناطق إلى مناطق، ومن مدارس إلى أخرى؛ ما يؤدي إلى عدم تكافؤ الفرص التعليمية بين الطلاب.
ويضيف: "نحن نسعى إلى توحيد معايير هذه المنظمات، كأن يكون هناك سلم رواتب مشترك، وخدمات مشتركة بين جميع المنظمات".
ومن النقاط السلبية في عمل المنظمات – كما يقول الأستاذ محمد مصطفى - سعي بعض المنظمات إلى تجاوز الجهات الرسمية، وهي مديرية التربية والتعليم والمكتب التعليمي في مجلس محافظة حلب – حيث تقوم أحيانا بالتعاقد مع المعلم، أو مع مدير المدرسة مباشرة، وهذا الأمر يجعلهم خارج نطاق الرقابة، فهم لا يريدون أن يكون هناك رقابة على عملهم، أو لا يرغبون الالتزام بمعايير لا يريدونها، وفي بعض الأحيان لا يرغبون بتعيين معلمين بدلا من المعلمين الذين يختارونهم على أساس الكفاءة والشهادة وأساس القِدم والخبرة".
ويؤكد أن هذا الأمر يؤدي أيضا إلى خلل كبير؛ "فنحن أيضا نسعى إلى أن يكون العمل عبر الطرق الرسمية، وأن توقع مذكرات تفاهم بين الجهات الرسمية والمنظمات، فالمذكرة لا تلزم المنظمة بدفع أي شيء للمديرية أو بتغيير أي نظام من أنظمتها، المطلوب فقط أن تعمل وفق الأنظمة والقوانين الرسمية، وأن تراعي معايير الكفاءة والجودة، وأن تقدم تقاريرها للجهة الرسمية، حيث يكون العمل ضمن معايير لا نتنازل عنها، ويضمن تقديمها تعليما جيدا لطلابها".
وحول جهود المؤسسات الثورية في دعم التعليم، وأبرز المؤسسات التي لها دور في ذلك، يقول الأستاذ عبود الحسين أن دور المؤسسات الثورية المدنية انحصر في مستويين:
المجالس المحلية التي تعنى بالجوانب الإدارية والتنظيمية، وتتضمن مكاتب تعليمية تكون في أغلب الأحيان مرتبطة مع مديريات التربية في المحافظات وتفتقر إلى الإمكانيات المادية، والتجمعات والنقابات المهنية للمهندسين والمحامين والأطباء وغيرهم ومحاولات خجولة في دعم الجانب التعليمي بسبب ضعف الإمكانيات، وفي أغلب الأحيان يتوجه الدعم للتعليم غير النظامي مثل دورات التمريض والفنيين، وغيرها".
ويرى الحسين أن المنظمات المدنية الناشطة في مجال التعليم يقع على كاهلها عديد من الواجبات يأتي في مقدمتها: إنشاء مراكز ثقافية تُعنى بتأهيل السوريين وإعدادهم علميًّا وثقافيًّا للحفاظ على اللغة الأم، وعلى الهوية؛ خشية انصهارها ضمن المجتمعات الأجنبية الجديدة، كما يجب أن تنفذ أنشطة صفّيّة ولا صفّيّة تناسب هوية الطالب السوري الثقافية، إضافة إلى تشكيل هيئة عليا ثقافية لرعاية الطلاب في دول اللجوء كل على حدة، ويقترح في هذا المجال إنشاء محطة تلفزيونية ثقافية تعليمية تربوية خاصة بالسوريين تركّز على الأخلاق والقيم والتربية وتشجّع الإبداع.
ويشدد الحسين على أهمية تقديم محتوى تعليمي جديد يناسب الطالب السوري الحر، مشيرا إلى أن المواد التعليمية للمنهاج السوري القديم تعد متوسطة المستوى؛ "ففي أجزاء منها تحوي مادة علميّة جيدة وفي بعض الأحيان لا تخلو من الحشو والتكرار وهذا يحتاج لبعض التعديلات، أما الجانب السياسي والذي تتضمنه كتب القومية وكتب التاريخ المزوّرة فهذا يحتاج إعادة النظر فيها وتغييراً جذرياً لهذه المفاهيم، كما يجب تشكيل لجان مختصة خبيرة في كل اختصاص على حدة للقيام بهذه المهام".
احتياجات التعليم
أمام هذه الأوضاع التي تكشّفت بعد حديث ضيوف "نور الشام"، يأتي التساؤل: بماذا نجمل احتياجات قطاع التعليم في المناطق السورية المحررة؟
الأستاذ عبود الحسين يرى أن الاحتياجات تتمثل في: تأهيل المدارس، وتزويدها بالتجهيزات الأساسية، مع تأمين الكتب المدرسية، إضافة إلى تشكيل لجنة من خبراء التعليم بكافة أصنافه لإعداد الخطط المتعلقة بالمناهج والاستراتيجيات بشكل متوافق مع المعايير الدولية القياسية.
كما يؤكد على أهمية عقد دورات تأهيل للمدرسين والخرجين الجدد، وتأمين رواتب للعاملين في قطاع التعليم بما يضمن استمراريتهم وعدم لجوئهم إلى البحث عن مجالات أخرى تحت ضغط متطلبات العيش.
ويوافقه مدير التربية الحرة بحلب، الأستاذ: محمد مصطفى، الذي يرى أن قطاع التعليم من القطاعات التي تحتاج إلى تكافل وتضافر الجهود، "فالاحتياجات ضخمة جدا، وأهمها تأمين الكتاب المدرسي، وتأمين احتياجات المعلم، فنحن بحاجة إلى رواتب للمعلمين تمتد طيلة العام الميلادي وتكون رواتب مقبولة نوعا ما، إذ ينبغي ألا يقل راتب المعلم عن ثلاث مئة دولار".
ويضيف: "عانينا معاناة شديدة من قلة الكتب المدرسية العام الماضي.. الأمر ليس بسيطا.. محافظة حلب وحدها تحتاج إلى كتب لمئة وخمسين ألف طالب تقريباً".
"ونحن بحاجة أيضا إلى مصاريف تشغيلية للمديرية والمجمعات.. نحتاج إلى أجور نقل واتصالات وقرطاسية ورواتب وبدل الاجتماعات، كما نحتاج رواتب للموجهين، وإلى كوادر من التوجيه التربوي والاختصاصي، حاليا: كل موجه من موجهي المجمعات يشرف على نحو مئة معلم، وهذا رقم كبير جدا، ويفترض أن يكون الأمر ضمن المعايير العالمية".
"كما أن مدارسنا بحاجة إلى مصاريف تشغيلية: من قرطاسية، وتنظيف، وتدفئة، وصيانة مستمرة، كما أننا بحاجة إلى صيانة المدارس المتضررة، حيث إن أكثر من ثلث المدارس تضرر في محافظة حلب وهو بحاجة إعادة ترميم وفي بعض المناطق نحن بحاجة إلى بناء مدارس لأن المدارس الموجودة لا تكفي الطلاب" .
ولا تقف الاحتياجات عند هذا الحد، فالأستاذ محمد مصطفى يضيف إلى ذلك الحاجة إلى مشاريع تدريبية لجميع المعلمين والمعلمات، على النواحي الفنية، والعلمية، والنفسية.
ويلفت مدير التعليم في حلب إلى أن التعليم الفني والمهني والتجاري غير موجود عمليا في المحافظة حلب، مشيرا إلى أن هناك مدارس قليلة على امتداد المناطق المحررة في المحافظات الأخرى، "لكننا بأمس الحاجة إلى هذا النوع من التدريب لتلبية احتياحات السوق من خريجي المدارس الفنية والصناعية والمهنية والتجارية والزراعية".
عقبات وتحديات
أمام هذه الجهود المحلية والدولية تقف كثير من العقبات التي تعرقل المسيرة، وتتطلب حلولا عاجلة، ويختصر الحسن العقبات التي واجهت ملف التعليم وما زالت تواجهه في عدة نقاط هي: حقوق الطالب السوري في ظلّ التشريعات الدولية، والتشريعات الخاصة بالطلاب السوريين في دول اللجوء، ولائحة ناظمة (سياسة تعليمية) للعملية التعليمية، والهوية الثقافية للطالب السوري، إضافة إلى الاعتراف بالشهادات الممنوحة للطلاب السوريين، وظاهرة التسرّب والتأخّر، وعملية تمويل تعليم السوريين.
ويضيف إليها أحمد الحاج عمر مدير المجمع التربوي في اعزاز، تأمين الدعم المستمر خلال أشهر الصيف أو الاستقرار في الدعم، وتأمين رواتب المتقاعدين، وتأمين المناهج بشكل كاف، وكذلك تأمين المناخ المناسب في المدارس من أجل إنجاح العملية التعليمية، وإيجاد الكوادر المؤهلة للتعليم، إذ إن "غالبية معلمينا من حملة الشهادة الثانوية وليس لهم خبرة في التعليم وهم بحاجة إلى دورات صقل ودورات تقوية من أجل إيصال المعلومة بطريقة جيدة لطلابنا".
إذن أين الجامعيون؟ وما دورهم؟
يقول الحاج عمر إن الجامعيين هم الذين حملوا التعليم منذ بداية الثورة، وكان هناك عدد من المعلمين الأحرار الذين تخلو عن النظام وانحازوا للثورة من البدايات وبدأوا بالتعليم تطوعا، ولكن قسما كبيرا من المعلمين بقي مرتهنا براتبه ولم يستطع الانفكاك عن النظام، فما كان من طلاب الجامعات والخريجين غير المتخصصين أو غير الموظفين من المتخصصين إلا أن قاموا بحمل هذا العبء وحمل هذه الأمانة، وقد قدرت مديرية التربية والتعليم هذا الامر حق قدره وقدمت لهم عدة فرص لتطوير أنفسهم واستكمال دراستهم حتى يتما تثبيتهم في التعليم أصولا.
ويوافقه في ذلك الأستاذ عبود الحسن، موضحا أنه في ظل نقص الكادر التعليمي وجد العديد من الجامعيين الذين فقدوا أعمالهم مكاناً لهم في التدريس، فمنهم من اعتبره واجباً وطنياً وثورياً لسد الثغرات، ومنهم من اعتبره طريقة في السعي لتأمين مورد، "ولكن بشكل عام معظمهم يحتاج إلى إعادة تأهيل في كل من المادة العلمية وطرائق التدريس بالحدود الدنيا على الأقل".
هموم جامعية
مع حديث ضيوفنا عن دور الجامعيين تبادر السؤال التالي: هل هناك خطط لترتيب أوضاع الشباب الذين تركوا جامعاتهم منذ خمس سنوات، ومازالوا في المناطق المحررة دون تعليم جامعي؟
يقول عبود الحسين إن هذه المهمة تقع على عاتق وزارة التعليم العالي في المناطق المحررة كجهة رسمية بالتعاون مع الجامعات في المناطق المحررة والدول الصديقة، مشيرا إلى أن هذا الأمر شائك نوعاً ما بسبب عدم توافر جميع الاختصاصات في هذه الجامعات المحلية من ناحية، وعدم وجود اعتراف من ناحية أخرى، واختلاف في السنة الدراسية لكل طالب، فمنهم من ترك في السنة الأولى ومنهم بقي له عدة مواد فقط، وهذا يحتاج إلى مبادرات مختلفة وتضافر جهود جميع الأكاديميين.
ويتطرق المدير العام لمؤسسة شفق شام الخيرية إلى أوضاع الشباب الذين يدرسون في جامعات مثل جامعة حلب الحرة وإدلب الحرة وغيرها من الجامعات في المناطق المحررة، وهل شهاداتهم معترف بها؟ فيقول إن هذه الجامعات تستوعب عددا لا بأس به من الطلاب، وهي تسد جزءاً من الفراغ الكبير الحاصل في التعليم الجامعي، ولكن لا يوجد اعتراف دولي رسمي حتى الآن بهذه الجامعات، مؤكدا على أن هذا الأمر يسبب أزمة نفسية وعدم ارتياح عند كثير من الطلاب.
هنا الحل!
أمام هذا الزخم الهائل من المشكلات التي يعانيها قطاع التعليم في سوريا المحررة.. ما الذي يخفف من الآثار السلبية لها؟ وما الحلول البديلة؟
يرى الأستاذ عبود الحسين أن الحلول كثيرة من أهمها: تشكيل جسم واحد لدعم التعليم من خلال اتفاقيات من جميع الجهات الناشطة في مجال التعليم، وإعداد معايير خاصة لحقوق الطالب السوري في المرحلة الراهنة؛ فهي ضرورية لضمان حقوقه: في المساواة والتعليم وتطوير ذاته، وكذلك إعداد وثائق أو تشريعات صريحة وتوقيع اتفاقات وتفاهمات حول حقوق الطالب السوري هدفها تدارك الأخطاء الحالية في العملية التعليمية بمشاركة كل أطياف المهتمين بالعملية التربوية من خبراء التربية والقانون، مع إنشاء بنك قانوني معلوماتي للطالب السوري هدفه إيجاد مرجع قانوني معترف به وموثوق، وصياغة قوانين وأفكار حقوقية تشكّل بنك معلوماتي قانوني دائم ومتجدّد بغية حماية حقوق الطالب السوري وتبصيره بحقوقه وواجباته العلمية في دول اللجوء.
ومن الحلول التي يقدمها الحسين: إيجاد سبل لتجاوز العقبات والانتهاكات التي يتعرّض لها السوريين في مجال التعليم في دول الجوار، وأهمية إنشاء هيئة سورية عليا للتعليم من فريق مؤهل من خبراء التربية والقانون هدف هذه الهيئة تأمين التعليم للأطفال اللاجئين السوريين ورقابة الجودة والدفاع عن حقوقهم وذلك لإنقاذ جيل كامل من الجهل والأمية.، إضافة إلى إعداد لائحة أو وثيقة ناظمة لعملية التعليمية تتضمّن السياسة التعليمية وغاياتها وأهدافها والمعايير التي تبنى عليها وآليات ضبطها، وإعداد الكوادر التربوية والفنية لمواكبة طرائق التعليم المتطورة من خلال التدريب والتأهيل.
ويرى الحسين أنه من الضروري وضع الكفاءات والخبرات في مكانها المناسب، ورسم سياسة تعليم متكاملة قابلة للتطبيق مع إيجاد جهات فعّالة تتبنى هذه السياسة بمشاركات على مستويات متعددة ومتنفذة وصاحبة قرار ومتفق عليها من جميع الجهات تشارك في رسم السياسة التعليمية وفق معايير أو أسس مناسبة للطلاب السوريين مع الأخذ بعين الاعتبار المعايير الدولية التي تمّ التوافق عليها، ووضع دستور (نظام داخلي) جديد للعملية التعليمية وإحداث مديرية رقابة داخلية لذلك من فريق مؤهل من خبراء التربية والقانون تهدف إلى ضبط عملية تنفيذ القوانين والسياسات المشرعة بما ينعكس إيجابًا على سير العملية التعليمية.