ما إن صدع الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى عبادة الله وحده، إلا وبدأ ينشر بين أتباعه الجدد –رضي الله عنهم- معاني الأخوّة بكل ما فيها من حب ومساواة، فأصبح الصحابي القرشي والحبشي والفارسي والرومي إخوة متحابين، سواسية لا فرق بينهم إلا بالتقوى.
وعندما شرع النبي صلى الله عليه وسلم ببناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بدأ بناءها من أصغر لبِنة فيها.. بدأها من الفرد؛ فآخى بين المهاجرين والأنصار، ووثّق هذه الأخوة بأن جعلها خالصة لوجه الله تعالى، ومن هنا بدأ البناء يشتد ويقوى حتى اكتسح العالم في سنوات قليلة، وفي أقل من 25 سنة كان قد أزاح عن الوجود إحدى أكبر قوتين طاغيتين على وجه الأرض، وأزال وجود الأخرى من بلاد الشام ومصر، ودخلت شعوب هذه المناطق في دين الله أفواجا بعد أن رأت عدل الإسلام وسماحته، ودعوته إلى الألفة والتآخي.
حصل هذا في تلك السنوات القليلة عقب مئات من سِنيِّ الضعف والتشرذم والحروب وانعدام الأمن والاستقرار في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، حتى جاءت نعمة الأخوّة العظيمة فغيّرت هذا كله، ولذلك نزل قول الحق تبارك وتعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً". (آل عمران - 103).
ولقد جاء تذكير ربنا –عز وجل– لنا بهذه النعمة بعد أمره إيانا بأن نعتصم بحبله المتين: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا".
ولا شك أن النظر في حال العرب قبل الإسلام بعينِ العقل البصيرة ليدفع بالمرء إلى الاتعاظ، والسعي إلى تجنب كل ما من شأنه العودة إلى تلك الأوضاع المزرية.
وإن من أعجب العجب أن يرى المرء درب الهلاك، ويدرك أنه درب هلاك، ثم لا يتورع عن سلوكه، ولا يتعظ بمن سار فيه مَن قبله مِنَ التائهين.
إن الرسول الكريم –عليه أفضل الصلاة والسلام- حينما كان يؤاخي بين المسلمين منذ بدء بعثته، كان يعلّمهم ما تستوجبه الأخوّة من حقوق وواجبات، وعلّمهم أن الأخوّة ليست مجرد شعارات تُطلق، ولا قصائد تُنشد، ولا عبارات تُنّمق.. علمهم –صلى الله عليه وسلم- أن الأخوة مشاعر حب حقيقية بين الأخ وأخيه، وأن هذه المشاعر لها دلالات فعلية تؤكد صدقها وحقيقتها، فكانت تلك المشاعر تنطلق من القلب فتحل في القلب، فاستحالت العلاقة بين الإخوة شبكةً مُحكمة تربط بين أبناء المجتمع الإسلامي جميعهم، ما جعله مجتمعا متماسكاً متراصاً، عصيًّا على التغلغل والاختراق، محصّنا ضد الاختلاف والتمزق، يعمل كمنظومة واحدة بكل سلاسة ويسر.
لقد تعلم الصحابة الكرام من نبينا صلى الله عليه وسلم معاني الأخوة الحقة، تعلموا أنها "تواضُع"، ونبذٌ للظلم، وإحقاق للحق حتى على النفس، فكانوا كما قال عنهم رب العزة والجلال: "أذلة على المؤمنين"، وكان أحدهم إذا بدَرَ منه ما يناقض هذا التواضع يسارع إلى أخيه فيعتذر منه أشد اعتذار، ويسارع إلى نفسه فيؤنبها ويغيّر من سلوكها مباشرة، كما حصل مع أبي ذر –رضي الله عنه-، فعن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: رأيت عليه بُرْدًا، وعلى غلامه برداً، فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حُلَّةً، وأعطيته ثوباً آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجميةً، فنلت منها، فذكرني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: "أساببت فلاناً" قلت: نعم، قال: "أفنلت من أمه" قلت: نعم، قال: "إنك امرؤ فيك جاهلِية" قلت على حين ساعتي: هَذِهِ من كبر السن؟ قال: "نعم، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أَخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه". أخرجه البخاري ومسلم.
كما تعلّم الصحابة من نبينا –عليه أفضل الصلاة والسلام- أن الأخوّة "إيثار"، فحققوا هذا الإيثار في أعظم معانيه: الإيثار بالحياة؛ ففي غزوة اليرموك قال عكرمة بن أبي جهل: قاتلتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواطن وأفرُّ منكم اليوم؟! ثمَّ نادى: مَن يبايع على الموت؟ فبايعه عمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربع مئة مِن وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدَّام فسطاط خالد حتى أُثْبِتُوا جميعًا جراحًا، وقُتِل منهم خلقٌ، منهم ضرار بن الأزور -رضي الله عنهم-... فلمَّا صُرعوا مِن الجراح استسقوا ماء، فجيء إليهم بشربة ماء، فلمَّا قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فتدافعوها كلُّهم -مِن واحد إلى واحد- حتى ماتوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم -رضي الله عنهم- أجمعين.
ولقد تعلم الصحابة من نبينا –صلى الله عليه وسلم- أن الأخوّة تكريم وإكرام، ومن ذلك ما رواه أبي السَّفَر، قال: (رُئِي على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بُرْد، كان يكثر لُبْسه، قال: فقيل له: إنك لتكثر لُبْس هذا البُرْد، فقال: (إنه كسانيه خليلي، وصفيي، وصديقي، وخاصتي عمر رضي الله عنه، إنّ عمرَ ناصحَ الله فنصحه الله، ثمَّ بكى). رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
ومن معاني الأخوّة الأساسية التي تعلمها الصحابة الكرام من المربي الأول –عليه الصلاة والسلام-: الموالاة، وها هو الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- يقف موقفاً حازماً مع ملك الروم حينما أراد استغلال الفتنة بينه وبين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- فقد ورد في (البداية والنهاية) لابن كثير: "فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليّ، تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت.
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة".
أما فهْمُ الصحابة الكرام للأخوّة على أنها تعاون على البر والتقوى فقد اتضح ذلك في مواقف كثيرة لا تحصى، ومنها موقفهم في قصَّة سلمان -رضي الله عنه- عندما كاتب سيِّده، وكان فقيرًا لا يملك ما كاتب عليه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للصَّحابة: "أعينوا أخاكم" فأعانوه، حتى تحرَّر مِن رقِّه، وأصبح حرًّا. (رواه أحمد وحسّن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة).
والمتبحر في سيرة سيد الأولين والآخرين –صلى الله عليه وسلم- يلحظ الحيز الكبير الذي يحتله الحث على الأخوّة الإسلامية بكل معانيها في هذه السيرة العطرة؛ ما يؤكد أهميتها، وأن التفريط بها معصية لله –عز وجل- ولرسوله الكريم –صلى الله عليه وسلم- وأن في هذا التفريط دمار الأمة وهلاكها، وفساد في دينها ودنياها.
ولا عجب في أن تحتل الدعوة إلى التآخي هذا الحيز الكبير في سيرة النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ فأي معنى إنساني ينافس معنى "الأخوّة" في الترابط والحب والتسامي عن كل ما ينغص العلاقة بين فرد وفرد وجماعة وأخرى؟
وأي حياة سيحياها المسلمون إذا فقدوا هذا الرابط العظيم بينهم؟
إن علماء اللغة يقولون: إن "إنما" تفيد الحصر، فإذا قرأنا قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة"، وأدركنا أن المؤمنين محصورين في "الأخوة"، فإن من الجدير بنا أن ينظر كل منا في حاله: هل حققتُ معاني الأخوة في نفسي وطبقتها على تعاملي مع من حولي؟ هل حققتُ المعنى الأساسي للإيمان وهو الأخوة؟
هل كنتُ صادقاً حينما صرخت مع إخوتي: لبيك يا الله؟!
هل اقتديتُ بالصحابة الكرام في تواضعهم لإخوانهم؟
وفي إيثارهم؟
وفي إكرامهم؟
وفي موالاتهم؟
وفي حفظ حقوقهم وأعراضهم وحقن دمائهم؟
إن من ابتعد عن هذه الصفات عليه أن يدرك أنه في خطر عظيم.. كيف لا وقد ناقض ما أكده الله –تعالى- بأن "المؤمنون إخوة".. وكيف نكون مؤمنين إذا سعينا –لا قدر الله- فيما يمزق أُخوّتنا ويبث العداوة والبغضاء بيننا؟!
لقد كان الأنصار –رضي الله عنهم- من أشد الناس تعادياً، فلما أسلموا أصبحوا من أشد الناس مودة فيما بينهم ولمن هاجر إليهم، فما بالنا نتعادى ونتقاتل وقد خلقنا الله مسلمين؟! ألم نهتف: هي لله هي لله؟ وألم نعلنها مدوية: لبيك يا الله؟ أمِنْ تلبية نداء الله أن نختلف ويضرب بعضنا رقاب بعض؟
إن من أشد الظلم أن يظلم المسلم أخاه وهو يزعم أنه بهذا الظلم يلبي أمر الله، وأن يسارع المسلم إلى قتال أخيه بناء على فتاوى خاطئة من بعض المحسوبين على العلم وأهله دون أن يتروى في ذلك، ودون أن يُعمل عقله وفكره في خطورة الإقدام على استحلال مال أخيه أو روحه، وكيف يسارع عاقل إلى ذلك وقد قرأ قوله تعالى: "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" (النساء – 93)؟!
فيا أيها المسلمون:
لقد بنى النبي –صلى الله عليه وسلم- دولة الإسلام الأولى على مدى سنوات قليلة، وفتح ما شاء الله له أن يفتح من البلاد والأمصار، ثم تابع صحبه الكرام من بعده، ففتحوا الدنيا من الصين إلى الأندلس، وما تحققت تلك الفتوحات إلا بعد أن تحققت معاني الأخوة الإسلامية في المجتمع، وإنَّ تشتُّتَنا وتفككنا وضعفنا في عصرنا الحاضر لهو أكبر دليل على تراجع معاني تلك الأخوة السامية في نفوسنا، وإن العاقل حينما يدرك هذا الخلل لن يتوانى عن معالجته، والمسارعة إلى نبذ كل ما من شأنه بث الفرقة والاختلاف، والبحث عن كل ما يوثق العلاقة ويبني أواصر الأخوة الإسلامية الحقة مع من حوله.
فهل سنعتصم بحبل الله جميعا ونكون من المهتدين؟!