السياسة الشرعية ( 1 ) مفهوم السياسة الشرعية
الخميس 12 يناير 2017 م
عدد الزيارات : 29662

 

السياسة الشرعية ( 1 ) مفهوم السياسة الشرعية
د. عمار العيسى - عضو المكتب العلمي لهيئة الشام الإسلامية 

 

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
مشاهدينا الكرام، نحييكم في سلسلة جديدة من حلقات برنامجكم صناعة الوعي التي تفتح ملفاً جديداً وقضية حظيت باهتمام الباحثين على امتداد تاريخنا الإسلامي، فتكلم فيها أئمة أمثال ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، وتركوا فيها آثاراً قيمة، ألا وهي مفهوم السياسية الشرعية، وفي عصرنا الحديث شهد هذا المصطلح تجاذباً بين من تساهل في كثير من أصول الشرع بحجة السياسة الشرعية واقتضاء المصلحة وبين منكرٍ لها بحجة الحفاظ على الثوابت، متناسين بأن الأمر عوان بين ذلك.
في هذه الحلقات سنناقش مفهوم السياسة الشرعية وامتداد هذا المفهوم عبر تاريخنا الإسلامي إلى عصرنا الراهن مع إسقاطها على النوازل والحوادث التي يشهدها العالم الإسلامي عموماً والساحة السورية بشكل خاص، وأسعد بأن يكون ضيفي في هذه الحلقات فضيلة الشيخ الدكتور"عمار العيسى" الباحث في السياسة الشرعية، وعضو المكتب العلمي بهيئة الشام الإسلامية، والمدرس في كلية المسجد النبوي بالمدينة المنورة.

أ. تمام: حياكم الله دكتور.

د. عمار العيسى: أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم..

أ. تمام: فضيلة الشيخ، ربما يكون مصطلح (السياسة الشرعية) جديداً على البعض من المشاهدين فحبذا لو بدأنا بتعريف هذا المفهوم، من أين جاء مصطلح السياسة الشرعية في موروثنا التاريخي الإسلامي؟
هل هناك سياسة شرعية وسياسة غير شرعية؟ ما المقصود بذلك؟

د. عمار العيسى: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وبارك على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
أما بعد، إن علم السياسية الشرعية من العلوم المهمة التي تتعلق بتحقيق مصالح الأمة ودفع المضار عن الناس، وقد كثرت الحاجة إليه في هذا الزمان، ولا سيما مع تعاقب الأحداث وتطور الأمور في هذا العصر، مما يستدعي تسليط الضوء على هذا المفهوم المهم كما أشرتم.
السياسية في اللغة مأخوذة من ساس الأمر إذا دبّره وقام عليه، يسايس الدواب: يروضها ويقوم عليها. ويمكن أن يُقال إن معنى السياسية الشرعية في اللغة تدل على القيام بالشيء فيما يصلحه، فإذا قام على الشيء بما يصلحه فقد ساسه ودبره وقام بشؤونه. بهذا المعنى جاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي غير أن لا نبي بعدي" ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (تسوسهم الأنبياء) أي: تقوم عليهم وتدبر شؤونهم كما يفعل الولاة بالرعية، هذا من حيث المعنى اللغوي، أما من حيث المعنى الشرعي الاصطلاحي الذي تعارف عليه أهل العلم فمعنى السياسة هو العلم أو الفن الذي يعتني بمصالح الدنيا في حياة الناس ودرء المفاسد عنهم. والسياسة بما هو موافق للشريعة تسمى سياسةً شرعيةً، وهذا يحتاج إلى توضيح، ومن السياسة ما لا يكون شرعياً، بل يكون مخالفاً للشريعة، فلا يصدق عليه أنه سياسة شرعية، ويمكن أن تعرف السياسة الشرعية كما عرفها بعض أهل العلم بأنها تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح.

أ. تمام : وبما يتوافق مع الشريعة؟

د. عمار العيسى: نعم لا شك في هذا، بما يمثل تحقيق المصالح ودرء المفاسد بما لا يتعدى حدود الشريعة، وإن لم ينزل به نص خاص، ولا وافق أقوال الأئمة المجتهدين.

أ. تمام: يعني لا يشترط أن يكون هناك نص صريح أو نطق الشرع بحكم صريح بالسياسة الشرعية حتى نعتبرها سياسة شرعية كما يظن البعض؟

د. عمار العيسى: نعم، هو هذا.
دائرة السياسة الشرعية تتسع لدائرتين
الدائرة الأولى: ما ورد في نصوص الشريعة في بيان أحكامه والإشارة إلى تفصيله.
الدائرة الثانية: ما لا يخالف الشريعة، وما وافق أصولها العامة وقواعدها الكلية ومقاصدها المرعية، وإن لم يرد في كل جزء منه نص خاص، حتى لو لم يرد في أقول الأئمة المجتهدين، فالسياسة الشرعية متجددة تتعلق بالتطبيق وتتعلق بحياة الناس.

أ. تمام: طيب، هذه المسائل المتجددة التي لم يرد فيها نص صريح، كيف يتم التعامل معها؟
هل من خلال ضوابط؟

د. عمار العيسى: لا شك أن السياسة الشرعية كما ذكرنا تشمل ما ورد فيه نص وما لم يرد فيه نص، والمهم في التعامل مع هذه النوازل والحوادث ألا يخالف النصوص الشرعية، فكل ما لا يخالف النصوص الشرعية هو شرعي، لأن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فكل ما حقق مصالح الناس ودرء عنهم المضار والمفاسد هو شرعي وموافق لشريعة رب العالمين التي جاءت لجلب المصالح و تكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، فما دامت هذه التدابير والإجراءات السياسية لا تخالف شريعة رب العالمين فهي فهي موافقة للشريعة الإسلامية، لأن الشريعة الإسلامية جاءت بالأصول الكلية، بالعدل والحرية والمساواة وغير ذلك من المقاصد، فإذا حُققت هذه المقاصد، فقد حصل المقصود من هذه التدابير، وحصل المراد من تطبيق السياسة الشرعية.

أ. تمام: فضيلة الشيخ، الأصل الإباحة في السياسة لتحقق مصالح الناس حتى لو لم يكن هناك نص شرعي أو قول لأهل العلم.

د. عمار العيسى: نعم هو هذا.
السياسة تتعلق بحياة الناس وبما يحتاجه الناس من مصالحهم الدينية والدنيوية، فمرجع ذلك إلى ما يختاره الناس، وإلى ما يرونه مناسباً لتحقيق تلك المصالح، ويشترط كما ذكرنا ألا يخالف دين الله سبحانه وتعالى.

أ. تمام: لكن نظام الحكم الإسلامي -فضيلة الشيخ-  نظام رباني من حيث مصادر التشريع في الكتاب والسنة، فما الذي تضفيه هذه الصفة على النظام الإسلامي؟

د. عمار العيسى: لا شك أن هذه الخصيصة هي أهم خصيصة يختص ويتميز بها النظام الإسلامي عموماً، والنظام الإسلامي السياسي على وجه الخصوص، وهذه الخصيصة تعطي هذا النظام جملة من الخصائص والمزايا تميزه وتفضّله على غيره من الأنظمة الأخرى البشرية الوضعية، فمن ذلك أن هذه الربانية تعطي النظام الإسلامي عصمة من الخطأ والتناقض.
كما قال سبحانه وتعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا}
أيضاً تحميه من التحيز والهوى، لأن كثيراً من النظم الأرضية والقوانين الوضعية تراعى بها مصالح فئة معينة أو فئة محددة يُراد تحقيق مصالحها على حساب فئات أخرى.
فالنظام الإسلامي سليم من هذا التحيز، ومن التحيز لفئة أو هوى.
الأمر الآخر، بما أن النظام الإسلامي من لدن الله سبحانه وتعالى، فهذا يعطيه شيئاً من الاحترام ومن سهولة الانقياد، لأن الإنسان بطبيعته يأنف أن يذل لغيره أو يتبع غيره، لكن إذا كان هذا النظام من الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يخضع لله، لذلك فالاحتيال على القوانين الأرضية قد يعده بعضهم نوعاً من الحظ أو نوعاً من المعرفة، أما الاحتيال على شريعة رب العالمين فهو كأنه مخادعة للنفس {يخادعون الله وهو خادعهم}، فلا شك أن هذه الصفة الربانية تنبثق عنها وتُبنى عليها كل الصفات والمزايا والخصائص الأخرى التي يتمتع بها النظام الرباني.

أ. تمام : لكن هذا -فضيلة الشيخ- يقود إلى سؤال آخر، وهو أن هذا النظام الإسلامي الذي مصدره التشريع الرباني ومتميز بالشمولية والواقعية،  ربما يقول البعض إن معظم ما ورد فيه ومعظم المسائل الواردة هي مسائل تخص الفرد، هل هذا صحيح أو أنها أعم وأشمل من ذلك؟

د. عمار العيسى: لا شك أن شريعة رب العالمين جاءت لتراعي مصالح العباد في الدين وفي الدنيا، ولتراعي الفرد والمجتمع، فنصوص الكتاب والسنة وقواعد الإسلام وضوابط الشريعة جاءت للفرد تعالجه كفرد، ولتعالج حال وجوده في مجتمع أو في أمة أو في دولة، نصوص الشريعة عامة، وتشمل كلتا القضيتين، حتى بما يتعلق بالتيسير على الناس ورفع الحرج، فالنصوص جاءت عامة تشمل الحالتين، وليست خاصة بحال الفرد، كما قال سبحانه وتعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج}.
إن هذا الدين يسر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاليسر يشمل حالة الفرد والمجتمع، ولذلك جاءت بعض القواعد الفقهية منطلقة في ألفاظها، فإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير وهذه عامة، للمشقة العامة والخاصة.
جاءت بعض القواعد الفقهية التي تدل على تقديم المصلحة العامة ودفع الضرر العام، ولو أدى ذلك إلى الاختلال ببعض المصالح الشخصية.
بعض القواعد الفقهية التي ذكرها أغلب أهل العلم تقول: (يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، وضربوا على ذلك أمثلة، مثل الحجر على الطبيب الجاهل حفظاً للمصلحة العامة، ومثل هدم البناء الآيل للسقوط إذا كان يُخشى منه الضرر العام، ومثل تحتم القتل في قطاع الطرق إذا قاتلوا، ولا يقبل عفو أولياء الدم لأن لها علاقة بالمصلحة العامة وبدفع الشر عن الناس.

أ. تمام: القول بأن النظام الإسلامي اقتصر في أحكامه على مصلحة الفرد غير صحيح؟

د. عمار العيسى: لا شك، لا شك أنه غير صحيح.

أ. تمام: وهذا أيضاً يقود إلى محور آخر وهو جهل البعض بحقيقة مفهوم السياسة الشرعية جعل هناك خلطاً على عدة مستويات، ربما هناك من ينادي بالجمع بين نظام الحكم الإسلامي وبين الأنظمة الديموقراطية ونظم الحكم الغربية، ولا يرى أيّ تعارض بين الشريعة وبين تلك الأنظمة.
أين يقع النظام السياسي الإسلامي من تلك الأنظمة الغربية على اختلافها؟

د. عمار العيسى: لا شك أن النظام الإسلامي كما ذكرتم رباني المصدر، ورباني الغاية والوجهة، وتلك النظم والمنظومات كلها بشرية، وبالتالي يمكن القول إن الفرق بين النظام الإسلامي والنظم الأخرى الغربية والشرقية كالفرق بين الخالق والمخلوق، كما أن الله سبحانه و تعالى خلق الخلق وهو بهم عليم وهو متميز عنهم لا يشبه شيء من تلك المخلوقات، وليس كمثله شيء، كذلك جاء الله سبحانه وتعالى بنظم وأحكام وترتيبات تختلف عن النظم البشرية، فهذه نظم كاملة جاءت من لدن حكيم خبيز، أنزلها لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل على وفق الحكمة والعلم الذي اتصف به رب العزة والجلال. أما تلك النظم فهي نظم وضعها الناس لتحقيق مصالحهم بحسب ما عندهم من علم محدود ومن نظرة قاصرة، ولا شك أن ما يقع فيه بعض المفكرين والباحثين من وصف النظام الإسلامي بأنه نظام ديمقراطي أو ديموقراطية الإسلام أو اشتراكية الإسلام أو دكتاتورية الإسلام لا شك أن هذا نوع من الخلط بين النظام الرباني الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي مصدره الوحي، وبين هذه النظم الأرضية التي وضعها الناس لتحقيق مصالحهم، فهناك فرق شاسع وبون واسع بين هذا النظام وذاك.

أ. تمام: لكن ألا يتعارض -فضيلة الشيخ- مع ما تفضلت به منذ قليل أنه إذا كان بعض ما يصلح أحوال الناس ويسوسهم لا يخالف الشرع فلا حرج في أن نأخذ به.

د. عمار العيسى: لا إشكال في هذا.
لابد أن نفرق، لدينا الآن ثلاث دوائر، دائرة للشريعة، ودائرة نصت عليها الشريعة، ودائرة توافق النصوص الكلية والقواعد العامة للشريعة، فالسياسة الإسلامية أو الشرعية تشمل هاتين الدائرتين، لكن هذه النظم تقوم على أساس سيادة الشعب وأنه مصدر السلطات، وأنه صاحب السياسة المطلقة التي ليس فوقها سيادة، فهو مصدر السلطات والتشريع والنظر والحكم بالأمور بالاعتبار أو الإبطال أو التحليل أو التحريم، فهناك فرق بين تلك النظم وبين نظام يجعل شريعة رب العالمين هي الأصل، فهو من الوحي، وهو المصدر الذي ينطلق منه المسلم، وهو الحاكم في حال الاختلاف، وهذا لا يعارض بأن تكون ثمة مساحة واسعة لتحرك الناس، خاصة في أمور الدنيا، وأما النظم الأخرى فكما ذكرت ليس لها مصدر شرعي أو مستند من الوحي المعصوم من الخطأ، و إنما ترجع إلى نظر الناس.

أ. تمام: تقصد أنه لا عبرة في المسميات سواءً كانت ديموقراطية أو اشتراكية.

د. عمار العيسى: لا شك أن العبرة والمعول والمعتبر في القضية هو الحقائق والمعاني.

أ. تمام: من خلط المفاهيم أيضاً -فضيلة الشيخ- ظهر فريق تساهل بأحكام الشرع إلى حد التمييع بحجة السياسة الشرعية، بينما ظهر فريق آخر على النقيض تماماً، وهو الغلو بحجة التمسك بالمبادئ.
ألا يوجد ضوابط لحماية هذا المفهوم من التفريط والغلو؟

د. عمار العيسى: لا شك أن الضوابط موجودة.
نرجع إلى السؤال الذي سبق الحديث عنه وأكدناه، وهو ظن بعض الناس أن السياسة لا تكون شرعية إلا إذا نص عليها الشرع، وحصل في هذا نوع من النقاش والمناظرة بين الإمام الوفاء بن عقيل وبين أحد فقهاء الشافعية، حينما قال ذلك الفقيه: لا سياسة توافق الشرع، قال له الإمام ابن عقيل: السياسة يعني الشرعية، يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم ينزل بها وحي ولم يضعها الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع، ولا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فهذا غلط، وتغليط للصحابة، لأن الصحابة رضوان الله عليهم قد وضعوا من التدابير ما لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه يندرج تحت المصالح الشرعية المعتبرة التي جاءت النصوص باعتبارها من حيث الجملة وإن لم تأتي باعتبارها من حيث التفصيل، وإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع أنه تكون السياسة شرعية ما لم تخالف الشرع، فهذا صحيح.
إذا أكدنا هذا المفهوم نرجع لهؤلاء الناس الذين يتوسعون أو يضيقون في هذه الدائرة، فلابد هنا التفريق بين الثوابت وبين المتغيرات، بين الثوابت الدينية والنصوص القطعية التي لا يمكن تجاوزها ولا يمكن تغييرها أو تبديلها ولا يمكن نسخها، وبين الأصول أو الأحكام المتغيرة باختلاف الأزمان والأحوال والوقائع، فمَنْ وسَّع دائرة الثوابت وجعل كثيراً من الأمور التي فيها مجالاً للاجتهاد والنظر ومواكبة الأحداث جعلها كلها من قبيل الثوابت، فيؤدي قوله بأن الشريعة جامدة، وأنها لا تفي باحتياجات الناس، وهذا سيحمل الناس تلقائياً للبحث عن حلول أخرى وعن مصادر أخرى تلبي احتياجاتهم أو حياتهم.
بالمقابل مَنْ يوسّع دائرة المتغيرات على حساب الثوابت يؤدي إلى تغيير ثوابت الإسلام.

أ. تمام: عندما أسقطنا هذا الكلام -فضيلة الشيخ- على الواقع في سورية على سبيل المثال، كثير من الجماعات والفصائل تصلبوا على الثوابت- كما تفضلت- بحجة الثبات على المبدأ، فيما فرط البعض إلى حد كبير بدعوى المرونة ومتطلبات المرحلة، فما المقصود الصحيح بالمرونة والثبات ؟

د. عمار العيسى: كما أشرت في الكلام السابق، الثبات يعني الأحكام التي لا تقبل التغيير والتبديل، أما التغير أو المرونة فيتعلق بالأحكام المتغيرة وباختلاف الأحوال والمناطات والعلل التي عُلقت بها، وباختلاف المصادر.
فالأحكام الشرعية قسمان، وكلها أحكام شرعية، ثمة أحكام شرعية ثابتة لا تتغير، كالحلال و الحرام، مثلا: لا يمكن أن يكون الربا في يوم حلالاً و في اليوم الآخر حراماً، كذلك الواجبات، مما أوجبه الله تعالى وكلف به الناس، كالصلاة والزكاة و.. و.. إلخ.
كذلك الأصول العامة والقواعد الكلية، هذه كلها من الثوابت لا يمكن أن تتغير أو تتبدل.
المتغيرات تكون في مثل الوسائل والأساليب في بعض الأحكام التي تتعلق بالأزمنة وبالأماكن، لذلك وضع أهل العلم قاعدة فقهية، فقالوا فيها: (لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) لا يُنكر ذلك، وإن كانت هذه القاعدة ليست عامة على إطلاقها، فليس كل شيء لا ينكر تغيره، وإنما الأحكام التي تتعلق بالوقائع وتتعلق بالأوصاف تتغير بتغير أحوال الناس.

أ. تمام: هذا ينطبق على كل الأحكام الشرعية أم على السياسة الشرعية فقط؟

د. عمار العيسى: السياسة الشرعية مجال التغير فيها أوسع من غيره، لكن كذلك الأحكام الفقهية وأحكام المعاملات، بل وبعض أحكام العبادات تتعلق بالعلل والمعاني، تتغير تلك العلل والمعاني المناسبة لتشريع الأحكام، تتغير بتغير الأحوال وبتغير الأماكن والأزمان، ويتغير الحكم تبعاً لها، فالجهات التي أشرت إليها لابد من النظر في المبادئ التي اعتمدت عليها تلك الجماعة، في بنائها و كيانها، والرجوع بها إلى أصول الشرع وأحكامه، هل هذه المبادئ لها ثوابت أو لا؟ هل هي من المتغيرات؟
إذا كانت من الثوابت فلابد من التمسك بها وعدم التفريط فيها، وإلا يؤدي كما ذكرت إلى التحلل وتوسع الشر، وبالمقابل إذا كانت من المتغيرات فليس لك أن تلزم الناس وتنكر على من نظر إلى تغيرها وتعلقها بمصالح الناس المتجددة، فلابد من اعتبار هذه المفاهيم ومحاكمة تلك المبادئ التي وضعت عليها تلك الجماعات إلى الأصول الشرعية والأحكام المرعية.

أ. تمام: جميل، إذاً، بالتعرف إلى المعنى الصحيح لمفهوم السياسة الشرعية والكشف عن بعض الملابسات والفهم الخاطئ لمفهوم السياسة الشرعية نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة.
لم يتبق لي إلا أن أشكر ضيفنا فضيلة الشيخ الدكتور عمار العيسى على هذا البيان.
لكم أنتم مشاهدينا الكرام من الشكر، ومحاور أخرى نناقشها في ذات السياق في حلقة قادمة بإذن الله.
حتى ذلكم الحين أترككم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 


https://islamicsham.org