عفوًا.. الوضع صامت
دون أن نشعرَ أحيانًا يتحوَّل الهاتف إلى الوضع (صامت)، فيتَّصل علينا مَن يتصل ونحن لا ندري، وقد يُصاب أحبابُنا بشيء من الاضطراب وكثير من القلق، فالرنين متواصلٌ، والصوتُ لا يصل، وعندها تنمو المخاوف في زمنٍ زادت فيه المهالك، وفي النهاية قد يثور علينا المتَّصل على قدر ما استبدَّ به القلق علينا، ورحَلَت بهم المخاوف في وادي الاحتمالات، أو حتى المستحيلات، ويأتي عندها اعتذارُنا - البارد -: عفوًا، سامحونا، الهاتف كان في الوضع الصامت!
ورغم توتر الأعصاب - وأحيانًا انفلات الألفاظ حتى بعد الاعتذار - يمرُّ الأمر، ويُقبَل العذر، فالهاتف أصبح باللمس، وهو قابل للتغير بالاحتكاك الخفيف بقصد وعن غير قصد.
أمَّا أن يتحوَّل الزوج في البيت إلى الوضع صامت! أو قد تكون الزوجة هي التي أصابها الصُّمُوتُ، فإن ذلك يقضي على الحياة الزوجية بالسكوت والخرس؛ فتصير أقربَ إلى وحشة القبور منها إلى السكن الذي منَّ الله به علينا وعدَّه من النعم، وهذا الداء (الزوج الصامت)، أو (الزوجة الصامتة)، أمرٌ خطر يستحق الإنذار، وضرورة الوقوف للإصلاح والترميم، قبل أن يصلَ بنا إلى تصحر حياتنا الزوجية، وجفاف المشاعر وبوارها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمَع لزوجاته ويسمَعن له، ولنا عبرة في الحديث الطويل - المشهور بحديث أم زرع - كيف سمِع من عائشةَ وهو مَن هو، ومشاغله صلى الله عليه وسلم تستحيي أمامها مشاغلُ رجال العصر وتتضاءل، فتصبح تعليلًا خائبًا لو تذرَّعنا به لنغطي بعض عجزنا وتفريطنا، ولنا في أخلاقه القدوة وكم وصَّى صلى الله عليه وسلم بالكلمةِ الطيبة، والتبسم، وضرورة الإخبار بالحب إن حصل حتى بين أخوين في الله، فما بال ما بين الزوجين؟
وعن أنسٍ رضي الله عنه، أن رجلًا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمر رجل به، فقال: يا رسول الله، إني لأحبُّ هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أأعلمتَه؟)، قال: لا، قال: (أعلِمْه)، فلحِقه، فقال: إني أحبُّك في الله، فقال: أحبَّك الذي أحبَبْتني له. رواه أبو داود بإسناد صحيح.
• تقول إحدى النساء: دخلتُ على طفليَّ الصغيرين فوجدتُهما يتقمَّصان دَوْري ودَوْر أبيهما، فوقفتُ أشاهدهما، وقد أخذ الكبير دورَ أبيه، وأخذ الصغير دَوري أنا كزوجة، فلبِس الكبير نظارةً كأبيه حاملًا حقيبة كبيرة، ثم طرق الباب ودخل، ثم قال في اقتضاب: "السلام عليكم"، وقد رسم على وجهه بعض الانقباض، ولم يغفل ابتسامةً هزيلة ليس لها في صد الوُجوم حيلةٌ، ثم وضع ولدِي الحقيبةَ في تمثيلية عجيبة، ثم استدار نحو أخيه - الذي أخذ دوري في المشاهد - قائلًا: الحمام جاهز؟ فقال الصغير - مقلدًا نبرتي وهيئتي: نعم حبيبي، الحمام جاهز، فقال الكبير: إذًا جهِّزي الطعام حتى أخرج، ووفِّري الوقت لأنام، واستدار ولدي الكبير - الزوج في الحكاية - ثم أتى إلى المائدة جالسًا في رتابة، كأنما يتناول الطعام، وسأل في استعجالٍ: كيف حال الأولاد؟ ولم يتركْ فرصة للإجابة، فعجِبتُ للولد من دقة التقليد، فسكت الصغير - ودوره في اللعبة كان أنا الزوجة - ولم يُبْدِ سوى إيماءة وابتسامة، وكنتُ في موقف المشاهد، كيف للأبناء إدراك تلك التفاصيل بدقة عجيبة! وكيف لهم هذه البراعة، رغم السن الصغيرة! فأكبرهم لم يتعدَّ العاشرة، أما الصغير، ففي الثامنة، ثم أكمَلوا الحكاية وأكملت المشاهدة، فقام الكبير - الزوج في الحكاية - بالذَّهاب للنوم، ومكث هُنَيْهَة - وهي عنده ليلة في الحكاية - ثم قام من جديد، وقال: تأخَّرت عن موعد العمل، واليوم قد زادت المشاغل، أسعفيني بالملابس، وهل الإفطار جاهز؟ ولبس نظارته حاملًا حقيبته، ثم خرج للعمل، ثم ضحِك الأولاد لإتمام الحكاية ونهاية المشهد، ملخصًا في سهولة حياتنا الزوجية.
فارتعبت في الحقيقة عندما رأيتُ تلك الرواية، ورأيت أطفالي وقد تلقَّنوا منا دروسًا في تصحر الحياة الزوجية، لكنها دروسٌ فاشلة، أقلقني الوضع، ولم يُفلح بعدها ما أدَّعيه من صبر، فبحثتُ في المسألة واستشرت أهل الذِّكر، فعلمت أنه داءٌ سمَّوه: (الصمت الزوجي)، وصنفوه بأنه بلاءٌ، وأبرز أسبابِ الطلاق، وحدَّدوا له أسبابًا، أهمها:
• رتابة الحياة، فقلت: لا بد من كسرِ تلك الرتابة والخروج عنها وتلوينها.
• ومن أسبابه كثرة المشاغل، فقلت: لا بد من كوابح "فرامل"، وأخذ هدنة كرحلة أو بعض الألعاب ولو كانت يسيرة؛ ومنها الرياضة، فلا بد من محطات للتنفيس عن الإغراق في الأعمال وكثرة المطالب.
• ومن أسبابه اختلاف المشارب والاهتمامات بين الزوجين، ونصحوا بالتشارك في الهوايات، وتوسيع مساحة الاتفاق؛ حتى يتم الالتقاء والتحاور.
• وقالوا: لا بد من تقليل الاعتكاف على وسائل الإعلام ومواقعِ التواصل؛ لأنها لو زادت تُفكِّك الأسر، وتنشر التهاجر، والعجيب أن الجميع قالوا: العبء في التغيير يقع أولًا على الزوجة! فأحسست بالذنب وخفت من التقصير، وقلت: لا بد من همة ليتم العلاج، فاستعنت بالله من بداية الطريق، وتغيير وضع زوجي من الوضع الصامت!