لكأنك تنظر إلى بلال بن رباح الحبشي رضي الله تعالى عنه يعذَّب في رمضاء مكة، بين حرارة الشمس ودروع الحديد، وسفهاء الصبيان يجرونه في شوارع مكة، ليترك دينه، وهو يقول كلمته الخالدة: (أحد أحد)، معبرا بها عن تصميمه وثبات قلبه.. فتنهار محاولاتهم البائسة أمام استجابته الإيمانية الصلبة.
ما الذي جعل قلبه الصغير أصلب من جحيمهم؟ إنها قوته المعنوية الداخلية التي تمثل 90% من قوة الإنسان الحقيقية، فإذا كانت (عضلة القلب) أساس حياة الجسد، فإن قوة قلبه المعنوية أساس إيمانه وحياته الحقيقية. وعن قلبه تصدر كل التصرفات والسلوكيات والاستجابات. وتبقى كل الظروف الخارجية لا تؤثر في الإنسان بأكثر من 10%، هو لا يستطيع التحكم بها، لكنها لا يمكن أن ينفذ تأثيرها إلى أعماقه ما لم تكن جبهته الداخلية هشة منهارة، لأنها مشغولة بالتوافه بما لم يترك مكانا للعظائم والقضايا الجوهرية والكبيرة.
هذه هي قاعدة 90/10. وتعني: أن الأحداث تشكل فقط 10% من حياتنا، أما الـ 90% الأخرى فتشكلها استجابتنا للأحداث وطريقة تعاملنا معها، واستجابتنا إنما هي انعكاس حقيقي لما في داخلنا من أفكار وقناعات ومشاعر ولما لدينا من عادات نعيش بها.
اسأل الناس بعد غارات قصف الطيران وآلامها الفظيعة، ستجد من يسب ويشتم ..، وستجد من يحمد الله أن بقي حيا، ويحتسب أهله شهداء، ويحمد الله أن رزقه الصبر يرجو به النصر والجنة.
حدث واحد، واستجابات متباينة، يصير الناس بها فريقين.
في كل قضية رابحة أناس خاسرون، خسروا قلوبهم، فلم تغنهم الانتصارات والمكاسب المادية الخارجية، بل تعلقوا بها فسقطوا، وهؤلاء سرعان ما يضيع النصر على أيديهم، بسبب خوائهم الروحي وفراغهم الداخلي. ولذا فإن الله تعالى لا يمكِّن لهؤلاء ولا يأتمنهم على دينه، ولو كان ظاهرهم التدين والعلم، لأنهم يكونون فتنة للناس، يضيع بسببهم الدين. لا بد من التمحيص.
وفي كل قضية خاسرة أناس رابحون، ربحوا قلوبهم، فلم تضرهم الخسارة المادية؛ لأنها خارج كيانهم الذي بقي حرا قويا من داخله، فأمكنهم استئناف العمل للقضية من جديد. وهكذا صار بلال المعذَّب هو صاحب الصوت المنادي للصلاة في مدينة الإسلام المنورة، طيلة حياة صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم أذن فوق الكعبة بعد فتح مكة، وسط ذهول سادة قريش وسلاطين مكة السابقين.
إنها بشارة لأهلنا المعذبين الصابرين اليوم في حلب والموصل وأرجاء سوريا والعراق وفلسطين.. صبرا أهلنا إن موعدكم الجنة، وقبلها نصر أو شهادة.