إنها حالة لا يمكن أن يتخيلها على حقيقتها إلا من عاش أحداثها وعاين وقائعها، حين يعظم الخطب، ويشتد الكرب، وتنقطع الأسباب الظاهرة للنصر، فتشخص الأبصار وتبلغ القلوبُ الحلقومَ من هول الموقف، ويشتدّ البلاء حتى لكأن الأرض تتزلزل، فتضطرب النفوس وتتمحص القلوب.
لقد وصف الله هذا الحال الذي وصل بالناس يوم الأحزاب بقوله: ﴿وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ * هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا﴾
فقد ابتلي نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أصابَهم جَهدٌ شَدِيد ومَكَثُوا ثَلَاث ليال لَا يَجدونَ طَعَاما، حَتَّى ربط النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بَطْنه حجرين من الْجُوع .وأصابهم البرد بما لم يمرّ عليهم مثله من قبل، وأصابهم الخوف حتى إنّ أحدهم لا يأمن أن يذهب ليقضي حاجته، ويقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلا رجل يذهب إِلَى هَؤُلَاءِ فَيَأْتِينَا بخبرهم - جعله الله معي يَوْم الْقِيَامَة)، فلا يتجرأ أن يقوم أحد من شدة البرد والخوف.
فأي كرب نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذلك اليوم!
إنه الاختبار والامتحان الذي يتبين فيه من يعبد الله على شفا جرُف فيظن بالله ظن السوء ويقول ﴿مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا﴾، ويتبين المرجفون المخذِّلون الذين يقولون لإخوانهم ﴿لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ﴾ فيُذعِرونهم ويوهنون عزائمهم ويتسببون بتسلط الأعداء عليهم. وتظهرُ النفوس المؤمنة الصابرة الثابتة التي لا تزعزعها الشدائد ولا تتزلزل، فهي أثبت من الجبال الرواسي إيمانًا ويقينًا وصبرًا، فتقول ﴿هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا﴾ ،
وفي مثل هذه المواقف يبرز دور القادة الربانيين وأهلِ العلم والرأي الذين يُثبّتون الناس ويُحيون الأمل في نفوسهم، ويكونون في مقدمة الصفوف، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول لهم وهم في شدة الكرب وهو يقاسمهم الجوع والبرد ويشاركهم حفر الخندق: (الله أكبر .. أعطيت مفاتيح الشام، أعطيت مفاتيح فارس، أعطيت مفاتيح اليمن .. وإن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا)، ويُبشِّرُهم ويقولُ: (والذي نفسِي بيدِه؛ ليُفرَّجنَّ عنكم ما ترَونَ من الشدَّة والبلاء، فإني لأرجُو أن أطُوفَ بالبيتِ العتيقِ آمنًا، وأن يدفعَ الله - عز وجل - مفاتِحَ الكعبة، وليُهلِكنَّ الله كِسرَى وقيصَر، ولتُنفقنَّ كنوزُهما في سبيلِ الله).
ومع هذا لا يغفل صلى الله عليه وسلم عن الأخذ بالأسباب، فهو يحفر الخندق، ويؤمّن جبهتهم الداخلية، فيضع النساء والذراري في حصن بني حارثة لئلا تضعف عزائم الجند خوفا على الحريم والولدان.
إن الابتلاء طريق الأنبياء، وما من مُؤمنٍ بالله واليومِ الآخر إلا وله نصيبٌ من الابتِلاء، ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، (وما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يترُكَه يمشِي على الأرض ما عليه خطيئة)،و إننا مطالبون عند نزول البلاء بالثبات والصبر والثقة بالله، مع الأخذ بالأسباب.
فما أحوجنا عند اشتداد الكرب للجوء إلى الله واتباع منهج الأنبياء، ولنعلم أنّ من فلق البحر لموسى لما قال له قومه ﴿إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ﴾، ومن أرسل دودة الأرض لتمزّق وثيقة الحصار الظالم بعد ثلاث سنوات حتى أكل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ورق الشجر؛ لنعلم أنه قادر على أن ينصرَنا بكلمة كن، وأن يرفع البلاء في طرفة عين، ففي لحظة واحدة ينقلب حال ﴿وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا﴾ إلى ﴿ورَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ﴾.
ولنعلم أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا، وهذه أرض الشام المباركة قد تكفل الله بحفظها، وملائكته باسطة عليها أجنحتها، وقد رويناها بالدماء الطاهرة، فلا يأس ولا حزَن ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾، ومهما طغى الأعداء وتجبروا فإنما هي سحابة صيف ستنقشع ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ * مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾، فالمعركة لا تنتهي عند خسارة أرض أو انحسارها ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ﴾، وإنما هي معركة بين الحق والباطل قائمة حتى تعلوَ رايةُ الحق والعدل، ويندحر الطغيان والاحتلال والظلم، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.