السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، مشاهدينا الكرام، طابت أوقاتكم وأهلاً ومرحباً بكم في لقاء متجدد من برنامج صناعة الوعي.
إن من سعة الدين ويسره أنه لم يحمل الناس على رأي وقول واحد في المسائل كافة، بل ترك لهم المجال والحرية كلٌّ بحسب وضعه ومصلحته، فتعددت الآراء واختلفت في بعض المسائل، لكن ضمن ضوابط وحدود لا تمس جوهر الدين ولا تؤدي إلى الشحناء والشقاق.
في حلقتنا هذا اليوم نناقش ضيفنا أنواع الخلاف ومتى يكون سائغاً أو غير سائغ.
وباسمكم جميعاً أجدد الترحيب بضيف هذه الحلقات الدكتور معن عبد القادر الباحث الأكاديمي والأمين العام لهيئة الشام الإسلامية.
أ. تمام: مرحباً بك دكتور.
د. معن كوسا: حياكم الله وحيا الإخوة والأخوات المسلمين والمسلمات.
أ. تمام: أوضحتم في لقاء سابق معنى الخلاف الذي نعنيه، وأشرتم في نهاية الحلقة أن ثمة خلافاً سائغاً وخلافاً غير سائغ ولكل منها معايير وتعريفات.
هذا يقودنا إلى السؤال: هل ينقسم الخلاف إلى هذين القسمين أو أن هناك تقسيمات أخرى؟
د. معن كوسا: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد الذي أمرنا بالوحدة ونهانا عن الفرقة وسماها الحالقة وفساد ذات البين.
يمكن أن نقسم الخلاف إلى سائغ وغير سائغ، وبالمناسبة هذا التقسيم ليس فقط في الأمور الفقهية، وإن كان أكثر من كتب عن هذا الأمر وتحدث عنه قد استدل كثيراً بأمثلة وشواهد من الخلاف الفقهي، لأن الذين كتبوا في هذا الموضوع هم العلماء القدامى، الذين كتبوا من أجل هذا الأمر، كمسألة تخريج وشرح أسباب الخلاف بين العلماء، مثل الكتاب المشهور لابن تيمية "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، وكتاب الدهلوي رحمهم الله جميعاً "الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف" وغيرها الكثير من الكتب.
فالعلماء ابتداءً منذ القديم اهتموا بقضية الخلاف بين العلماء والفقهاء، ثم أصبح من كتب يستشهد بهذه الأمثلة على أدب الخلاف وأحكامه، فأصبحت الصبغة الفقهية تطغى على هذه الجوانب، ولكن كما ذكرنا قبل، هذا الأمر هو عند البشر عموماً والخلاف يكون في هذه المسائل وغيرها.
أ. تمام: إذاً، التقسيم صحيح، هناك خلاف سائغ وخلاف غير سائغ، وهذا ينطبق على المسائل الفقهية وغيرها.
د. معن كوسا: لكن حقيقةً، الخلاف في المسائل الفقهية مفيد.
أ. تمام: لكن هل يمكن أن يكون اختلاف العلماء في المسائل الفقهية تحديداً سبباً في ترشيد الخلاف بين الناس؟
د. معن كوسا: صحيح.. نعم يكون تماماً، ولذلك تكون دراسة موضوع الخلاف بداية مما كتب عن الخلاف الفقهي مفيدة جداً، الأمر الأول: الحقيقة لو تأملنا في كل خلافاتنا العملية نجد أنها ترجع إلى خلاف فقهي معين، ولو أخذنا أكثر الخلافات الموجودة على الساحة السورية الآن، مثلاً الخلاف في موضوع الراية هل يرفع هذا العلم أو ذاك؟ هذا اللون أو ذاك؟
أ. تمام: مسألة فقهية في الأساس.
د. معن كوسا: نعم مسألة فقهية في الأساس، لكن لما لم يُتعامل معها برشد أحدثت نزاعات وربما قتالاً.
مثلاً: هل نفرض غطاء الوجه على النساء بالقوة؟ هناك مسائل كثيرة صرنا نختلف فيها، وربما صار للخلاف أبعاد كثيرة غير علمية، لكن حقيقة ًمنشأ الخلاف علمي، لذلك إذا عرفنا كيف كان العلماء يتعاملون مع الخلاف العلمي فترشيدنا في المنطلق يؤدي إلى الترشيد في المآلات.
الأمر الثاني: إذا علمنا أن العلماء اختلفوا في أمور من الدين التي فيها نصوص وكان بعضهم يتعاملون ضمن هذا الخلاف، فمن باب أولى أن يكون هناك تفاهم وتعامل حينما نختلف فيما هو دون ذلك فيما ليس فيه نصوص.
الأمر الثالث: كان عند العلماء دقة وفقه عظيم، نلاحظ هذا عندما ننظر كيف ضبطوا مسائل الخلاف السائغ، ولعلنا نستطرد فيه في هذه الحلقة، موضوع الخلاف السائغ لم يترك هكذا، فنحن نستطيع أن نستفيد من منهجية وضع المعايير والمعاني لكي نقيس عليها، وفي مجالات أخرى أيضا، ما الذي يكون سائغاً وما الذي يكون غير سائغ.
أخيراً: التعامل مع الخلاف السائغ وغير السائغ، نستفيد من سمتهم و أدبهم.
أ. تمام: و هذا يقودني بالانتقال إلى المحور الآخر، متى يكون الاختلاف سائغاً، وما هي المعايير التي عدها العلماء في الاختلاف السائغ في القضايا الشرعية وفي القضايا الفقهية؟
د. معن كوسا: جميل..
كما هو معلوم القضايا الشرعية مبنية على الدليل، وبالتالي فإن الذي يجعل الخلاف سائغاً أو غير سائغ هو النظر إلى نوع الدليل أو طبيعته، ولذلك فإن مظان الخلاف السائغ والأماكن التي يتوقع أن يكون الخلاف فيها سائغاً تدور حول بعض المسائل في الدليل.
الأمر الأول: حين لا يكون في المسألة نص صريح، فستجتهد الناس إذا، والعلماء سيجتهدون، وهنا سأمثل تمثيلات فقهية، كعورة المرأة أمام المرأة، لا يوجد نص صريح في هذا، فاجتهد العلماء هل نقيس عورة الرجل على الرجل أو نقيسه أن المرأة تحتاج إلى ستر أكثر و... و.. إلخ، فحصل الاجتهاد.
الأمر الثاني: قد يكون هناك نص، لكن قد يكون مختلَفاً في صحته، هل هذا الحديث صحيح أو غير صحيح، ومن رأى أنه صحيح عمل به وبنى عليه، ومن رأى غير ذلك لم يعمل به واجتهد رأيه.
مثل حديث "لا نكاح إلا بوليٍ و شاهدي عدل" مَنْ صححه اعتبره شروطا في النكاح وبغيرها فاسد، ومن لم يصححه اجتهد غير ذلك.
الأمر الثالث : أن يكون هناك نص صحيح ولكنه مختلف في دلالته، ماذا يعني تماماً؟
أ: تمام: تقصد حسب فهمه لمن فهمه..
د. معن كوسا: نعم..
يعني مثلاً "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون"
الحديث عن ماذا هنا؟ ومن هم المطهرون؟
فمن قال إن الحديث عن اللوح المحفوظ، والمطهرون هم الملائكة لم ير في النص وجوباً على الطهارة للمس المصحف، ومن رأى أن عبارة النص أشمل من ذلك، رأى أن فيه دلالة على وجوب الطهارة، فإذاً هذا أيضاً جعل الخلاف سائغاً.
فالحديث موجود والنص موجود، ولكن مختلف في دلالته.
الأمر الرابع: قد يكون كل هذه الأمور موجودة، ولكن مختلَف في وجود المعارض له، نعم هذا النص موجود وصحيح وصريح، لكن هناك نص آخر يبدو في ظاهره التعارض مع هذا النص، وهنا يبدأ العلماء بالبحث، كيف نجمع بين النصين، فيجمعون على طرق مختلفة أو بعضهم يرجح العمل بالنص الأول لقرائن عنده، أو يرجح العمل بالنص الثاني لقرائن عنده، فيصبح الأمر محل اجتهاد، يعني لو مثّلنا له بحديث النبي صلى الله عليه وسلم "من مسّ ذكره فليتوضأ" و حديث "هل هو إلا بضعة منك" الأول يدل على وجوب الوضوء، والثاني يدل على أنه لا حرج، وهذان الحديثان ظاهرهما التعارض، ومنهم من رجح الأول وقال أحوط، ومنهم من رجح الثاني، ومنهم من قال نجمع بينهما، فقال إن كان بشهوة فليتوضأ.
فبالتعارض الظاهري في الأدلة أخذ العلماء يجتهدون في هذا الأمر.
أ. تمام :هذا الاجتهاد يعتبر سائغاً؟
د. معن كوسا: يعتبر سائغاً، لماذا؟
لأن سبب الاختلاف هو وجود عدة أحاديث ظاهرها التعارض، الكل يعود إلى الحديث والنصوص، لا أحد يرفض الحديث، لكن هناك تباين فهم للنصوص، فالخلاف مبني على هذه الأمور.
وأمر خامس مهم: وهو خلاف سائغ ونسميه تحقيق المناط، يعني الحديث موجود صريح وصحيح، ولكن هل هذا النص ينطبق على مسألتنا أو لا ينطبق؟
يعني مثلاً: أن يفجّر الإنسان نفسه في العدو، هل هذه المسألة تنزل عليها أحاديث قتل النفس؟
فمن رأى أنها تُنزّل رأى أن هذه العمليات لا تجوز ولا تنبغي، ومن رأى قتل النفس فيه معنى اليأس من الحياة وعدم الصبر والجزع، بينما الذي فعل ذلك هو مقدم، رأى أن هذا الحديث لا يُتنزّل.
إذاً، هنا اتفقوا على كل شيء، واختلفوا هل هذه المسألة مما يُنزّل عليه هذا الحديث أو لا يُنزّل.
فعندما يكون الخلاف مرجعه إلى أحد هذه الأمور الخمسة هنا يكون سائغاً.
أ. تمام: ألا يعني ذلك أن كل خلاف العلماء سائغ؟
د. معن كوسا: هذا غير صحيح، لأن هناك خلافا بين العلماء مرده ليس إلى هذا.
أ. تمام: إلى ماذا؟
د. معن كوسا: مثلاً: إلى عدم علمه بالدليل، وهذا أمر كان متصوراً قبل تدوين النصوص، فهذا العالم لم يعلم هذا الدليل، فقال بقول واجتهد، ثم وقف عالم آخر على الدليل، لكن هل يبقى الأمر من بعدهم خلافاً سائغاً؟
لا، نقول قولين في المسألة.
القول الأول: غاب عنه الدليل ولم يكن يعلم به، أعطيك مثالا: في قصة عمر رضي الله عنه في حادثة الطاعون، لما أُخبر أن الطاعون وقع بالشام، ولم يكن أحد من حوله قد سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبرهم به، ماذا كان يريد عمر أن يفعل؟ كان يريد أن يجتهد ويسأل الناس، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وقال: عندي علم. وأخبرهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فعمر اجتهد قبل أن يأتي عبد الرحمن بن عوف، وفعله صحيح، لكن هل هذا خلاف سائغ، هل نبقى نقول إلى الآن إذا وقع الطاعون في الأرض فهناك قولان قول ندخل وقول لا ندخل؟
نقول لا، لأن هذا الخلاف لم يعد خلافاً سائغاً.
أ. تمام : بعد أن ثبت الدليل.
د. معن كوسا: بعد أن ثبت الدليل، فليس كل خلاف يكون فيه ما نسميه شذوذا، وتأويل العالم لا يعد سائغاً إذا كان بعيدا.
مثلاً: حصلت قصة للإمام "يحيى بن يحيى الليثي"، وهو من أصحاب مالك، استفتاه أحد أمراء المغرب أنه وطئ جاريته في رمضان، فأفتاه بوجوب الصوم ولم يخيره بما موجود في المذهب، فلما سُئل عن هذا قال: هذا أمير، إذا قلنا له أعتق رقبة، يطأ أمته كلَّ يوم ويعتق رقبة.
لكن العلماء قالوا إن هذا التأول بعيد.
أ. تمام: هذا وقفي.
د. معن كوسا: نعم، جاء التخيير، وفيه ما يدل على عدم اعتبار الذي أردت أن تذهب إليها
فالشاهد أن العلماء أحياناً يختلفون ويقولون أقوالاً ليس مردها إلى أسباب الخلاف السائغ، فلا تكون المسألة سائغة في الخلاف.
أ. تمام: السؤال أيضاً: هل هؤلاء العلماء اختلفوا اختلافاً غير سائغ.
هل يؤخذ عنهم؟ هل تبرأ الذمة بالأخذ عنهم؟
د. معن كوسا: أحسنت، حقيقةً هذه مسألة في غاية الأهمية، وهنا تبرز عظمة الإسلام وعدله وإنصافه، ففي الإسلام نفرق بين القول والقائل، ونفرق بين المسألة الخلافية والمخالف فيها.
نحن إلى الآن قررنا أن الخلاف يكون سائغاً أو غير سائغ، وضبطنا متى يكون الخلاف سائغاً ومتى يكون غير سائغ.
الذي يكون مخالفاً، ما حكمه؟
المخالف نقسمه إلى قسمين: معذور وغير معذور.
قد يكون المخالف معذوراً، و قد يكون غير معذور، وهذا لا علاقة له بنوعي الخلاف، أي يمكن أن يكون الخلاف سائغاً والقائل بالقول غير معذور، فالمسألة خلافية، ولكن القائل بها غير معذور.
أ. تمام: مثل ماذا؟
د. معن كوسا: مثلاً: تغطية المرأة لوجهها مسألة خلافية بلا شك، فيها أدلة هنا وأدلة هنا، الآن من حيث النظر المسألة خلافية تعود لأحد أسباب الخلاف السائغ.
أتانا شخص ليس من أهل العلم ومعروف أنه من أهل الدعوة إلى التحرر وكذا وكذا، لكن يريد أن يطعن في الإسلام، لا يستطيع الدخول في السفور والتبرج مباشرة، فجاء يدخل بأدلة والعزف على هذا، هو حقيقة يقول بقول العلماء، ولكن اتباعاً لهوى، فهذه مسألة خلافية، لكنه ليس معذوراً، لأن دافعه في القول ليس اتباعا للأدلة وليس لنصح الأمة، وإنما اتباع الهوى، ويريد مدخلاً لما بعده.
وكذلك العكس، قد تكون المسألة الخلاف فيها غير سائغ، ولكن صاحبها معذور.
أ. تمام: كيف؟؟
د. معن كوسا: أعطيك مثالاً، كالذي قال لأبنائه إن أنا متُّ فحرٍقوني فوالله إنْ قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه لأحد من العالمين.
هذه المسألة، هو يظن أن الله عزَّ وجلَّ غير قادر على جمعه إذا حرّق، هل هذه المسألة نقول فيها إنها خلاف سائغ؟
لا، هذا ليس خلافاً سائغاً، إلا أنه رجل معذور، لأنه جاهل بالأمر، وخوفه دفعه إلى ذلك.
هناك مسائل كثيرة قال بها الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم، قالوا بها ثم علمنا بعد ذلك أن الأمر على خلاف قولهم.
عثمان بن المظعون رضي الله عنه تأول في الآية {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا} تأول أنه يمكن أن يشرب الخمر مادام قلبه مطمئناً بالإيمان.
هو معذور بهذا التأول، لكن لا نجعل هذه المسألة خلافية، ولا نقول هناك قولان في الخمر ويمكن أن يشربها من كان قلبه مطمئناً بالإيمان، لا نقول هذا.
هنا نصوص قيمة جداً نثبتها للتأكيد على هذا المعنى، يقول ابن القيم عليه رحمة الله تعالى: أينما دخل اللبس، واللبس يعتبر كل مسألة خلافية سائغة ومحل اجتهاد، يقول: أينما دخل اللبس من جهة القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل اجتهاد، أي كل شيء يختلف فيه الناس مسائل اجتهاد، كما اعتقد فيها طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد هي المساغات التي ذكرناها قبل قليل، ثم قال: المسائل التي اختلف فيها السلف الخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير. وساق لنا أمثلة مثل مقال عمرو بن مظعون وعائشة رضي الله عنها لما أنكرت أن تقطع المرأة الصلاة، هي لم تطّلع على هذا الأمر، لكن مِن الصحابة مَن سمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نقول المسألة الآن خلافية، المسألة ليست خلافية، لكن عائشة رضي الله عنها معذورة.
هنا مسألة مهمة جداً، شيخ تمام، وهي أن جلالة قدر العالم الذي قال بالقول لا تجعل المسألة خلافية، المسوغ مرده إلى الدليل، ولا تصبح المسألة خلافية إذا قال بها رجل عظيم..
أ. تمام: يبقى هنا سؤال مهم جداً، العامي ما يدريه؟
ما يدريه أن هذا معذور وهذا غير معذور، وهذا الخلاف سائغ وهذا غير سائغ؟
هو يعلم أن الشيخ فلان قال بذلك وإن كان الخلاف سائغاً، وإن كان القول شاذاً، لكن كما يقال اجعل بينك وبين النار عالِماً.
د. معن كوسا: حقيقةً هذا سؤال في غاية الأهمية، بالنسبة إلى العامّي نحن نقول القدر الذي كلفك الله به ويحاسبك عليه أن تكون فعلاً قد توجهت إلى من تظن أنه الأعلم والأورع، ثم لا يضرك لأنك عامي لا تحسن غير هذا.
أ. تمام: ليس الكل يبحث عن الأورع.
د. معن كوسا: أحسنت، لكن الله عزَّ وجلَّ يقول: {بل الإنسان على نفسه بصيرة}
أ. تمام: يبحث عن الأيسر، وما يوافق هواه.
د. معن كوسا: نعم أحسنت، نقول هنا محل الاختبار، الله يوم القيامة لما يسألك لماذا اتبعت قول فلان، فأقول يا ربي هذا شيخ البلد، والله يعلم أنك صادق فأنت معذور، وإذا قلت يا ربي شيخ البلد، وأنت تعلم أنه ليس شيخ البلد فأنت غير معذور.
حقيقةً العامي يدرك لماذا اتجه إلى هذا ولم يتجه إلى ذاك، قيل[ الإثم ما حاك في صدرك]، فنحن نقول ابحث مثل أي امرئ آخر، أي عندما تمرض أو تتعطل سيارتك تبحث عن الأفضل في هذا الأمر، فكذلك في أمر الدين، واسمح لي هنا أن أختم هذه النقطة بهذا القول المهم جداً للشيخ ابن تيمية يقول: "إذا رأيت المقال المخطِّئ قد صدرت من إمام قديم فاغتُفِرت لعدم بلوغ الحجة له فلا يُغتفَر لمن بلغته الحجة، فلهذا يُبدّع من بَلَغَته أحاديث عذاب القبر إذا أنكرها، ولا تُبدّع عائشة ممن لمتعلم أن الموتى يسمعون في قبورهم )لأنها ما بلغها هذا، فهذا أصل عظيم، فإذًا، يا أخي، نفرق بين الخلاف السائغ أو غير السائغ، صاحب القول معذور أو غير معذور، فقد يكون غير معذور مع أن الخلاف سائغ، لأنه متبع لهواه وليس من أهل العلم أصلاً ليخوض في المسألة، وقد يكون معذوراً مع أن المسألة ليس فيها خلاف.
أ. تمام: تأصيل رائع دكتور، لكن ماذا عن المسائل غير الشرعية الفقهية، هل ينطبق عليها نفس المعايير في الخلاف السائغ؟
د. معن كوسا: نحن ذكرنا أننا نستطيع أن نستفيد من هذا التراث العظيم في تأصيل وشرح مسائل الخلاف فننطلق به إلى أي أمر آخر، فكيف نستفيد مما ذكرناه في المجالات الأخرى؟
أولاً: وجدنا أن العلماء ضبطوا متى يكون الخلاف سائغاً ومتى يكون غير سائغ، وفي كل فن وفي كل مجال يستطيع أهل الفن والمجال أن يضعوا معايير ومسلمات وقواعد، مثلاً: في الهندسة المدنية معروف أن هناك أموراً إذا فعلها مهندس مدني يعتبر مجرماً، وكذلك في الطب، فكل علم وكل فن له أهله الذين يعلمون ما هي المسلمات التي يعتبر الخطأ فيها غير سائغ والأمور التي يكون فيها الخطأ سائغاً.
الأمر الآخر الذي نستفيد منه، كما رأينا قبل قليل أن نستصحب العذر لمن أخطأ حتى و إن كنا لا نرى الخلاف سائغا، قد يكون معذوراً والمسألة غير خلافية، لكنه معذور لأن قصده صحيح و نيته صحيحة، وربما لم يطلع على هذه المسألة.
أ. تمام: حتى في المسائل الدنيوية وبعيداً عن المسائل الشرعية؟
د. معن كوسا: حتى في المسائل الدنيوية، صحيح أننا قلنا إن الخلاف في المسائل الدنيوية أكثر من المسائل الدينية، لأنه لا وجود للنصوص، لكن مع ذلك لا تستقيم حياة الناس بأن نجعل كل المسائل خلافية، لذلك عندما تجتمع الناس في عمل مشترك في مؤسسة أو كيان أو فصيل عسكري أو سياسي ماذا يفعلون؟
يضعون نظاماً أساسيّاً، ما المقصود بالنظام الأساسي والمواثيق؟
المقصود أن نتفق على القدر المشترك الذي لا يمكن أن نخالف فيه، لأنه إذا تركنا كل المسائل قابلة لوجهات النظر لا يمكن أن نعمل عملاً سويّاً، ولا يمكن أن تستقيم الحياة، فهنا تقوم نصوص النظام الأساسي و المواثيق و المعاهدات مقام النصوص في الشرع بالنسبة إلى تعاملنا معها، يعني أن هذه يجب أن تكون محترمة فيما بيننا، لا نقول هنا حق وباطل و إثم وكذا، على الأقل صواب وخطأ، وبالمناسبة تكون أحياناً إثماً لأن المسلمين عند شروطهم، أي إننا أعطينا العهود والمواثيق على هذا النظام، فمخالفته تنقلنا إلى حديث (المسلمون عند شروطهم)، فلذلك يحتاج الناس إلى أمور ثابتة يرجعون إليها، وإلا تصبح حياتهم فوضى وغير قابلة لوجهات النظر.
أ. تمام: كيف تُسقط هذا الكلام على واقعنا اليوم، وعلى الواقع في المناطق الأكثر دموية، حيث الخلاف موجود بين من يقومون على العمل على الرغم من ذلك؟
د. معن كوسا: نلخص هذه المسألة.
أول شيء أن ننطلق ونعتقد بوجود شيء اسمه خلاف سائغ، أي لا ينبغي أن نعتبر أي شخص يخالفنا ضالاً مضلاً مستحقاً لكل العقوبات و.. و.. إلخ، يا أخي، في الشرع وفي الدين هناك خلاف فلا بد أن نقدر.
الأمر الثاني: أن نقدر أن المخالفين فعلاً عندهم العذر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يُنقل له فعلٌ مخالفٌ إلا سأله أولَ شيء: ما حملك على ما صنعت؟ يسأله لماذا فعلت ذلك؟ أحياناً نضع النصوص لضبط الأمور، لكن النصوص تكون محتملة، أي نضع أحيانا نصًاً في النظام الأساسي مثلاً: لا يجوز لقائد الفصيل أن يعين أحد أقاربه في موقع قيادي من الفصيل. ثم يقوم القائد ويعيّن أخاه في موقع قيادي من الفصيل، نقول له يا أخي أنت خالفت النظام، وهذا خلاف غير سائغ، نحن غير متفقين مع هذا..!
وأتى ووضع قريبه في موضع خدمي ليس قياديا، نقول له أصبحت المسألة محتَمِلة.
أ . تمام: ربما هذا يؤكد على نقطة ذكرناها في البداية، وهي أن فهم الاختلاف السائغ من العلماء في المسائل الفقهية يرشد خلافنا فيما سِواها.
وحتى لا ندخل في خلاف غير سائغ مع المخرج، أنا أضطر إلى أن أنهي الحلقة هنا، على أن نناقش مزيدا من المحاور بإذن الله في حلقات قادمة.
شكراً لكم مشاهدينا الكرام على حسن المتابعة، حتى نلتقيكم في حلقة قادمة نترككم في رعاية الله.