لا شك أن موضوع تفرق كيانات الثورة السورية موضوع ذو شجون؛ ولعل المشهد السوري اليوم هو الأكثر وضوحاً في تأثير هذه القضية على سير الأحداث، فأكثر من خمس سنوات اليوم منذ انطلاق الثورة السورية والدماء تسيل والمعاناة تزداد وتكالب الأعداء بات واضحاً، وتخلي القريب وتآمر الغريب ومع ذلك ما تزال الفرقة هي سيدة المشهد، وكثير يتساءلون: إلى متى نبقى متفرقين رغم هذه المآسي؟
ماذا يمنعنا من التوحد بعد كل هذه السنوات، وبعد كل ما سال من الدماء وما لبسه هذا الشعب من المعاناة...؟
هل تأخر السوريون في توحيد كلمتهم واجتماع صفوفهم تحت راية واحدة وقائد واحد؟
الدكتور خير الله طالب رئيس هيئة الشام الإسلامية وعضو أمناء المجلس الإسلامي السوري، يقول مجيبا عن هذا التساؤل: "لا شك أنه متأخر وتأخره له أسبابه"، ويوضح قائلا: "إذا تحدثنا عن الاجتماع وفلسفته بشكل عام، فإن الاجتماع هو محصلة أعمال كبيرة وكثيرة وهو تعاقد على نظام يصنعه البشر وفق قيم، وإذا أتينا إلى هذه القيم فواقع السوريين يبين أنها بنيت في ظل نظام مخالف للاجتماع، فقد صنع صناعة الفرقة أي بنيت على باطل.
ففي داخل كل منا عوامل الفرقة يزرعها بيده ويشارك في سقايتها يومياً".
ويؤكد: "الفرقة صناعة مشتركة صنعناها بأيدينا وسقيناها يومياً بتصرفاتنا، فإذا أردنا ان نخرج من الفرقة فعلينا أن نعود جميعا إلى أسبابها. إذن ما أسبابها؟ وأين تكمن الحلول؟ يقول رئيس هيئة الشام الإسلامية: "أول أسباب الخلاف هو: تعدد الدوافع، ولذلك ينبغي أن نعترف أن الفرقة طبيعية في ظل تعدد الدوافع.. الثورة السورية مشروع ضخم جداً، والمشاريع الضخمة تحتاج لأن يستَعد لها جيداً، وبما أن الثورة جاءت بلا استعداد فمن الطبيعي أن نختلف؛ لأننا رُبينا على الفرقة أيضاً"، ويضيف: "المشاريع الضخمة تحتاج أيضا إلى مراحل، وإذا لم يكن هناك استعداد لن يكون هناك مرحلة طبيعية، كما أن التغيير عند الله له سنن وقوانين، وتبدأ هذه السنن من داخل النفوس ثم تنعكس على الأفعال وتوفير واقع جديد، الحقيقة نحن انطلقنا في هذه الثورة مدفوعين بدوافع متعددة، وهذه الدوافع مختلفة بين صالح و طالح، ودوافع صالحة، ودوافع سيئة، والدوافع الصالحة متباينة بين دوافع صغيرة ودوافع كبيرة ضخمة، وهناك من انطلق يريد تمكين دين الله عز وجل في الأرض وصار يحلم أحلاماً كثيرة هي في أصلها مشروعة ولكنها غير ممكنة إلا بعد أجيال، هذه سنن الله عز وجل وهي من طلائع الأمور، ومنهم من اندفع يريد الجنة وهي حلم كل مسلم، فهو يريد أن يقتَل وليس أن يبني حياة جديدة؛ لذا هو ليس لديه مشكلة في أن تدمر البيوت، يريد الشهاد فقط، وآخر يحلم برغد العيش وعبادة هادئة ساكنة بعد الثورة، وآخر يحلم بما منع منه من حرية وانطلاق وراحة نفسية". أما السبب الثاني للفرقة والاختلاف في الثورة السورية فيؤكد د. خير الله طالب أنه التربية والتنشئة، بينما يتمثل السبب الثالث في غياب القيادة لهذه الثورة، وحول هذا السبب يوضح: "هذا أمر تأخر فيه السوريون كثيراً، خصوصا وأن غياب القيادة يعدد الآراء والعمل التنفيذي اليومي في إجراء العمليات العسكرية والتصرفات السياسية والعلاقات الخارجية، فهذه الأمور لا تحتمل تعدد الرأي؛ لأن تعدد الرأي يؤدي إلى تضارب وهذا معناه أن يضيّع بعضنا ما حققه الآخر، و بالتالي أصبح هناك بناء وهدم يومي في ظل غياب القيادة وتعدد الرأي العملي التنفيذي اليومي إضافة إلى تعدد الخطط، والتي – إذا وُجدت - تكون في غالب الأمر قصيرة".
وعند هذه النقطة يقول الدكتور خيرالله: "هذا يوقفنا على سبب رابع من أسباب الفرقة وتأخر النصر والتمكين وهو: غياب الاستراتيجية والرؤية البعيدة، فنحن نعاني نظراً قاصرا يوميا محدودا بنطاق جغرافي أو بقدرات ذاتية، إننا عندما نتحدث عن (إسقاط نظام) فإن إمكانات منطقة ما أو مدينة أو محافظة لن تمكننا من الوصول إلى هذه الغاية، يجب أن نوسع النظر وننسلخ من الحالة اليومية وننظر من بعيد إلى هذا البلد ككل".
ويضيف: "تكامل هذا البلد بتنوعه كله.. بتنوع إمكاناته، ومقدراته وثرواته، وقدراته التفكيرية، وتنوع أفراده، وتنوع تجاربه في الثورة، نحن الآن نمر بحالات عصيبة وصعبة من الفتن الداخلية والخارجية، وقد مررنا ببعضها في بداية الثورة ومنتصفها..
السؤال: هل نحن نقرأ هذه الحالات؟ هل نحن نقرأ هذه الإخفاقات؟ إذا لم ندرسها ولم نقرأها سنكرر هذه الأخطاء مرة أخرى".
أسباب فردية: ويشير رئيس هيئة الشام الإسلامية إلى أن الأسباب الأربعة السابقة هي أسباب عامة، وهناك أسباب فردية خاصة يتمثل أولها في "نفسية العصمة"، إذ يتصرف بعض المسؤولين في الثورة وكأنهم معصومون عن الخطأ وأن الخطأ لا يوجد إلا في غيرهم، وهذا يجعلهم يمتنعون عن تقبل أي نقد أو نصيحة، ويستطرد موضحا: "إذا قلنا لأحدهم أنت لست معصوما، ربما يغضب وينفعل انفعالا شديدا نافياً عن نفسه هذه التهمة؛ غافلا عن أن المحك هو "أفعاله" وليست أقواله، فقد يدعي الإنسان أنه خطاء لكن أفعاله تقول إنه يتصرف تصرف المعصوم.. لا يقبل الاعتراف بالخطأ ولا يقبل التصحيح ولا يقبل النقد". ويضيف: "عندما ننقد يجب أن نقول: هذه الثورة هي "نحن جميعاً"؛ فحينما ننقدها وننقد أنفسنا نفصل بين الخطأ وصاحبه، وهناك أخطاء يجب أن تسلط عليها الأضواء ونتداولها جميعاً، نحن سنرتقي بالنقد البناء، والنقد البناء مرتبط بحالة اتهام النفس والبدء منها ومن داخلها، حينما أبدأ بنفسي سيتقبل الناس نقدي، وإذا لم أبدأ بنفسي فالناس لن يتقبلوا نقدي، وهذه نقطة بلي فيها الكثير من الناقدين والناصحين وهو أنه لا ينتبه إلى أخطائه أحيانا، فيجيد نقد الآخرين وإذا أجاد نقد الآخرين تسلط عليهم بهذا النقد وهم يرون أخطاءه؛ وهو يرى أن عليهم أن يستمعوا؛ الواقع أنهم لا يستمعون، يوجهون له النقد فيرفض النقد؛ لذلك أول مايكون تصحيح الحال من داخل النفس والاعتراف بالحالة البشرية الخطاءة التي تحتاج لتصحيح مستمر.
وعن كيفية التخلص من داء نفسية العصمة يؤكد الدكتور خير الله طالب أنه يكون بالاستماع والتعلم والقراءة لأن هذه الأمور توسع الأفق والمدارك وتوقف الإنسان على أخطائه، لافتا إلى أننا نحتاج إلى أن نتربى على الحوار المستمر، وإلى أن نتعاون على رصد الأخطاء بغض النظر عن أصحابها بمعنى أن نفصل بين الخطأ وصاحبه.
السبب الشخصي الثاني كما يقول الدكتور خير الله طالب هو: (الإلغاء والإقصاء) ويشدد على خطورته؛ فهو قد يصل إلى التدمير والمحو والقناعة بعدم السماح للآخرين بأن يعيشوا على هذه الأرض، ويصل بصاحبه أيضا إلى تكفير الآخر ليستحل دمه ثم يستحل دمه وماله، ويضيف: "صاحب هذه الصفة يرى أن مخالفيه لا يستحقون العيش و أن هؤلاء لا يجب أن يبقوا في الحياة لأنهم مصدر الشرور، هو رآهم شراً من الشياطين، والله عز و جل قال عن الشيطان(إن الشيطان عدو لكم فاتخذوه عدواً)، وهو بدور اتخذ إخوانه المسلمين عدواً له بالأحكام الجائرة التي أطلقها عليهم، بالتكفير الذي أطلقه عليهم بجهل، دون علم و دون بينة".
ويستدرك الدكتور خيرالله بقوله: "هنا وقفة مهمة: يجب أن ندرك تماما أن نفسية "الإلغاء والإقصاء" لا تقتصر على من تدين و التحى وصلى وطالب بالخلافة، هذه النفسية يتلبس بها من انتسب إلى التدين ومن لم ينتسب إلى التدين، هناك إقصائيون من غير المتدينين أشد إقصاءً من بعض المتدينين".
أما السبب الثالث فيقول رئيس هيئة الشام الإسلامية إنه نابع من السبب الثاني وهو: حصر الخير والمكاسب في النفس ونسبة الشر والفشل إلى الآخرين، ويشير إلى أن منشأ هذا التصرف يعود إلى ضعف الوعي والإدراك لطبائع الأمور وطبائع الانتصار، "فالانتصار ليس انتصار فصيل، وليس انتصار جماعة، وليس انتصار فئة، وليس انتصار العلماء وحدهم، الانتصار هو انتصار الشعب كله، وبالتالي: حينما أنسب المكاسب لنفسي، فأنا في هذه الحالة قد ألغيت الشرائح التي شاركت، وربما كانت مشاركتها أكبر من مشاركتي، وضحّت أكثر مني، لكنها ربما لم تعلن ذلك لوعيها وإدراكها للمخاطر، أو لتواضعها، وربما لجهلها بالإعلام، وليس معنى ذلك أنها لم تقدم.. لا، بل قدمت، فالمشكلة هنا في ضعف الوعي وهذا ناشئ من مركّب الجهل، والغفلة عن العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية والعلوم الفكرية والحقائق السننية، وناشئ من سبب آخر مهم ويحتاجه كل واحد منا، وهو عدم التفكر في النفس: أنا من؟ وأعمل عند من؟ أنا وُجِدْت لأعمل لا لأحقق النصر، عملي يحقق النصر الذي يأتي به الله في وقته، أنا أجير عند الله، ومكاسبي وأجوري عند الله عز وجل..
حينما نغفل عن هذا نصبح شغوفين بمكاسب اليوم، ونبحث عن مكسب آني، دنيوي، لحظي".