يرقق بعضها بعضا
الكاتب : أسرة التحرير
الأربعاء 13 أبريل 2016 م
عدد الزيارات : 6737

يرقق بعضها بعضا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وحدثهم ببعض ما يكون في المستقبل، فكان مما قال: (إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) أخرجه مسلم.
ومعنى: (فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا): أي يصير بعضها رقيقًا أي خفيفًا لعظم ما بعدها، فالثاني يجعل الأول رقيقًا، أو يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها والثاني فيرقق والثالث، وهكذا.
فمما ميَّز الله –تعالى- به آخر هذه الأمة شدة البلاء الذي يصيبها، وكثرة المصائب التي تنزل بها بما لم يكن في أولها، مما يجعل (الْحَلِيمَ حَيْرَانًا)؛ لشدَّة ما فيها من التباسٍ وتداخل، وصعوبة تمييز بعضها عن بعض، والتصرف تجاهها.
ولشدَّة البلاء هذا، وما يحتاجه من صبرٍ ومكابدةٍ فإنَّ الأجر المترتِّب عليه كبير وعظيم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من ورائِكم أيامَ الصبر، الصبرُ فيه مثلُ قبضٍ على الجَمْر، للعامل فيهم مثلُ أجر خمسينَ رجلاً يعملون مثلَ عمله، قيل: يا رسول الله: أجرُ خمسين منهم؟ قال: أجرُ خمسين منكم) أخرجه أبو داود، وغيره.
فللصابر على هذه الفتن والمحن، والعامل بما أمره الله في ذلك الوقت العصيب أجر خمسين من الصحابة رضي الله عنهم؛ لشدَّة مجابهة هذه الفتن، وصعوبة العمل فيها.
وقد أرشدنا ديننا الحنيف إلى سبيل الخروج من هذه الفتن بلزوم جماعة المسلمين، والأخذ بما عليه مجموعهم العام؛ فإنَّ الخير والحق يكون غالبًا مع الجماعة، بما فيها من أهل رأي، وخبرة، وأهل العلم، وعامة المسلمين.
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث ذلك، مثل قوله: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) أخرجه البخاري، ومسلم.
وقوله: (فمَن أحبّ منكم أن ينالَ بُحبوحةَ الجنّة فليلزم الجماعةَ؛ فإنّ الشّيطانَ مع الواحدِ، وهو مِن الإثنين أبعدُ) أخرجه أحمد.
والمقصودُ بجماعة المسلمين: سوادُهم الأعظمُ ومجموعهم الملتزمون بالسّنّة، أو المجتمعون على إمامٍ يُطبِّق فيهم شرعَ الله.
وفي ذلك يقول تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:83].
وبما تقدم يعلم أن أمر البت في النوازل والحوادث المستجدة وإيضاح حكم الشرع فيها ،ليس لأحد أن يخوض فيه إلا العلماء أهل البصيرة في الدين، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في معنى الآية: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق ، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة ؛ عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها... ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة".
فمهما كان في الانفرادِ والوحدة من خير، فإنَّ الخير الأقل مع الجماعة أفضل وأصوب.
ومما ينبغي التنبُّه إليه كثرة تغيُّر المواقف والانحراف عن الطريق؛ فلكل نفسٍ قدرها على الصبر أو التحمل، ولبعض النفوس هواها وشهواتها، فلا ينبغي أن يتأثر المسلم بهذه المواقف والتغيرات، ما دام مع إخوانه يراجعهم، ويشاورهم، ويصدر عن رأيهم، ففي ثباته أخذٌ بالأمر الشرعي، وتثبيتٌ لإخوانه المسلمين..
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق ويبصرنا به، وأن يرزقنا الثبات عليه حتى لقائه..
والحمد لله رب العالمين  

 


https://islamicsham.org