أمواج كالجبال تكاد تبتلع الأرض التي تفجرت حنقاً وغضباً... مطر منهمر من السماء تنفَّسَ الإذن بهطوله ينسكب غيظاً وغرقاً..
كيفما الْتفتَّ لا ترى غير الماء... الجندي الطائع لخالقه، الثابت على منهجه، المدرك على بصيرة يمضي حيث يأمره الجبار العظيم سبحانه وتعالى..
في خضم هذه العاصفة الهوجاء، والماء المنهمر والأمواج العاتيات... كانت سفينة واحدة تسير بثبات وبرؤية واضحة ويقين لا يلين...
فمن هو رُبّانها؟ ومن هم راكبوها؟ ولماذا اختارهم المولى سبحانه لينجيهم من الغرق المحتَّم؟ ما الذي جعلهم في مأمن من الخوف أن يَهْلِكوا والعالم من حولهم يمضي إلى الدمار؟
إنها لآيات عظيمة تحمل القلب ليغرق في مدلولاتها وتدعو الفكر ليغوص في معانيها.
فألف سنة تمضي ونبي الله نوح يدعو قومه لعبادة الله: {إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (هود 26،25)،ألف سنة من الثبات على منهج رباني لم يتغير ولم يتبدل، وبوضوح الرؤية والرسالة دعا قومه.
رُبّان ثابت ومرافقون صادقون... فمضَوْا برعاية الله يصارعون تلك الأمواج تغمرهم الطمأنينة وتغشاهم السكينة...
وتمر آلاف السنين تَتْرى... ونرى الأمس البعيد حاضراً اليوم في أمتنا وقد عصفت بنا شهوات الدنيا وعبثت الزخارف بقلوب الكثيرين حتى أصابهم اللوث في أفكارهم وصدأت قلوبهم...
فإنْ لم يرسل الله علينا (عذاب الطُّوفان) بسبب بُعدنا عن تطبيق منهج الاستخلاف الرباني الذي أمرنا باتباعه، فإن أمتنا الإسلامية اليوم تغرق في طوفان الحروب المدمِّرة والشهوات المجنونة والتلوثات الفكرية والفِتَن الإعلامية والأمراض القلبية... وكلها أمواج كالجبال بوسائلها وأدواتها الفتاكة بهذا الإنسان الذي حمل هوية الإسلام!!!
ولا بد أن ندرك أن هناك دوماً سفينةً النجاة من هذه العاصفة ومن هذه الأمواج، ولكن لا يستحق أن يكون من رُكّابها إلا من حمل قلباً قد أدرك بصيرتَه الرؤيةُ الواضحة لغايته، وامتلك إيماناً لا يحيد عن الحق أينما دار.
إن قلب المؤمن المتنوّر بنور الهداية الربانية تحيط به الرؤية الواضحة الشفافة التي لا يشوبها ضباب النفاق والمنافقين، فلا توقفه المعوقات عن التحديق في غايته المنشودة، كمثل باحث عن الخلاص في صحراء قاحلة، فأبصر من بعيد قافلة، فعلّق بصره بها، وحث المسير نحوها، وبينما هو كذلك إذ بشوكة تصيب قدمه... فإذا الْتفتَ إليها تاهت القافلة عن مرأى بصره فهلك في تلك القفار، وإنْ هو تحمل وتابع الأثر وصل إلى مبتغاه من النجاة!!!
وللمؤمن الثابت قلبٌ عامرٌ باليقين بحكمة مولاه سبحانه وتعالى، فما زالت النوائب تنزل به وتعترضه العقبات لتنزع منه كل شائبة وتنقّيه من أي تعلّق في هذه الدنيا، فإن ثبت وصبر وصابر نال ثمرة ذلك كله حلاوة الأنس بالله، ويكون لبنة في بناء التغيير والإصلاح لهذه الأمة.
إن سفينة النجاة لا يعتلي متنها مشوَّشُ الفكر والعقيدة، ولا يراها فاقد البصيرة ومن كان في رؤياه ضبابية الملذات والشهوات الدنيّة.
{أفمن كان على بينة من ربه كمن زُيّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم...} (محمد: 14).
فيا أيها القلب الذي احتوى في جنباته حُباً لمولاه: تهيأ للنوائب لتلقى رضاه، وكن جَلْداً صبوراً في الأزمات لا تخشى إِلاّه...