تصحيح المنهج ( 7 ) كشف الغمة باتباع علماء الأمة
الكاتب : الشيخ فايز الصلاح
الأربعاء 23 ديسمبر 2015 م
عدد الزيارات : 26002

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على المبعوث رحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :
إنَّ الناظر في أحوال المسلمين - وفي ضَوء السنن الشرعيَّة والكونيَّة - يجزم بأنَّ الغُمَّة لا يُمكن أن تنكشفَ عن هذه الأُمَّة، إلاَّ بالعودة إلى الكتاب والسُّنة على فهم سلف الأمة.
ولا يكون ذلك إلاَّ بالارتباط بالعُلماء الرَّاسخين، الذي هو ارتباط بالسلسلة الذهبية المتصلة، التي أخذها العدل عن مثله إلى منتهاها، من غير شذوذ في منهج، أو علة في تأصيل.
فالعالم ينقل عن مثله، عن التَّابعين بإحسان، عن صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ربِّ العالمين أحكم الحاكمين.
ولقد عبَّرَ - عن هذه السلسلة الذهبية - الإمامُ الأوزاعي - رحمه الله - عندما قال: "كُنَّا والتَّابعون مُتوافرون، نقول: إنَّ الله فوق عرشه، ونُؤمن بما وردت به السُّنة من صفاته". أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"2/304.
فالأوزاعيُّ أخذ من التَّابعين، وهؤلاء أخذوا من الصحابة - رضي الله عنهم - وهؤلاء عن الذي لا ينطق عن الهوى - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وعندما نقول: إنَّه لا بُدَّ من الارتباطِ بالعُلماء، لا نعني بذلك التعصُّب لهم، وإنَّما نعني بهذا الارتباط: الاقتداء بهم اقتداء البصير الناقد، لا اقتداء المجادل المعاند، واتِّباع أقوالهم التي أخذوها من الكتاب والسنة، وعدم تجاوزها إلاَّ بدليلٍ يترجح عند طالب العلم، وإذا بان الخطأ منهم، فإننا نردُّه مع احترامهم وإجلالهم والدُّعاء لهم بالمغفرة.
وذلك لأن الله قد جعل العلماء أدلاءَ على الحقِّ، وسطاء إليه؛ ولكنَّ الضَّلالَ الوقوفُ عندهم من غير دليل واعتبار ذلك هو الشرع.
قال الشاطبي في" الاعتصام"2/872: "إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال ".
كذلك تجاوزهم وعدم اعتبارهم وسائط إلى الحق ضلال، فضلا أن يطعن فيهم فهم مفاتيح الخير الباقي في الكتاب والسنة.
قال الشاطبي في "الاعتصام" 2/880: "إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضـاً لا يعـرف دون وسائطهم بل بهم يتوصـل إليه، وهم الأدلّاء على طريقه".
فالناس مع العلماء طرفان ووسط، طـرفٌ فيـه إفراطٌ وغلوٌ وهم المقلدون المتعصبون، وطرفٌ فيه تفريـطٌ وجفـاءٌ كأصحاب الغلو، وهم الأدعياءُ الأصاغر الذين لا يلتفتون إلى أقوال العلماء، ولا يرفعـون لها رأساً ويقولون هم رجال ونحن رجال، والوسط هو العدل وهو منهج الاتباع  لمنهجهم العام مع الاعتبار لأقوالهم التفصيلية بأدلتها من الكتاب والسنة من غير تعصبٍٍ لها إذا خالفت الكتاب والسنة، وفي هذا حفظٌ لحق الشريعة وحق العلماء .
قال شيخُ الإسلام في"الفتاوى الكبرى" 3/177ـ178مؤصلاً لهذا المعنى :" نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ ولا حول ولا قوة إلا بالله . 
لكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين :
أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم، وترك كل ما يجر إلى ثلمهم .
والثاني : النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم , وإبانة ما أنزل الله ـ سبحانه ـ من البينات والهدى .
ولا منافاة أن الله سبحانه بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين: رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم، أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام "
العلماء هم النجوم وهم أولو الأمر :
قال ابن القيم في"إعلام الموقعين" 2/14 :" فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم  أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب ، قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
قال عبدالله بن عباس في إحدى الروايتين عنه، وجابر بن عبد الله، والحسن البصري، وأبو العالية ، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، ومجاهد، في إحدى الروايتين عنه, أولوا الأمر: هم العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال أبو هريرة ، وابن عباس في الرواية الأخرى، وزيد بن أسلم، والسدي ومقاتل : هم الأمراء ، وهو الرواية الثانية عن أحمد .
والتحقيق أن الأمراء ، إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء
".
وقال شيخ الإسلام في" الفتاوى11"/551 :" وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم , ثم بعد ذلك تفرقت الأمور, فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر, وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين، وهؤلاء أولوا أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله".
وللأسف الآن أصبح كثيرٌ من أمراء الحرب لا يصدرون عن كلام العلماء الراسخين بل يتبعون من لا علم عنده، وإذا نصحهم العلماء جابهوهم بالقاعدة الفاسدة الباطلة:" لا يفتي قاعدٌ لمجاهدٍ".
من هم العلماء ؟
العلماء الربانيون الملتزمون بنصوص الكتاب والسنة على فقه سلف الأمة هم ورثة الأنبياء ، وهم الطائفة المنصورة الظاهرة على الحق، وهم أهل الحديث والأثر ، ومن سار على طريقهم .
قال الإمام أحمد في حديث الطائفة المنصورة : "إن لم يكونوا أصحاب الحديـث فلا أدري من هم " ، وقال أحمد بن سنان : " هم أهل العلم وأصحاب الآثار" ، وقال علي بن المديني : "هم أصحاب الحديث", وقال البخاري : "يعني أصحاب الحديث", وقـال يزيـد بن هارون : "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم".
وهذه الآثار أخرجها كلها بسنده الخطيب البغدادي في كتابه " شرف أصحاب الحديث".
قال شيخ الإسلام في" الفتاوى" 4/8 في شأن أهل الحديث :" فهم أكمل الناس عقلاً ، وأعدلهم قياساً , وأصوبهم رأياً ، وأسدُّهم كلاماً , وأَصحُّهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً ، وأتمهم فراسـة ، وأصدقهم إلهاماً ، وما نَبُل الإمام أحمد والشافعي وغيرهما عند الأمة إلا باتباع الحديث والسنة " .
فلذلك كان العلماء من أهل الحديث والأثر هم الناطقون بالحكمة, قال أبو عثمان الجبري :" من أَمّرَ السنة على نفسه قولاً وفعلاً ، نطق بالحكمة ومن أَمّرَ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً ، نطق بالبدعة ، قال الله تعالى {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [النور: 54]".
ومن هنا لو كان هناك عالم واحد من أهل الحديث والأثر على وجه الأرض ، لكان الواجب على أهل الأرض أن يتبعوه ، لأنه هو الجماعة الحق التي أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتزامها.
قال إسحاق بن راهويه :" إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم , فقال رجل: يا أبا يعقوب من السواد الأعظم؟ فقال : محمدُ بن أَسلم وأصحابه ومن تبعه, ثم قال: سأل رجلٌ ابنَ المبارك , فقال : يا أبا عبدالرحمن من السواد الأعظم ؟ قال : أبو حمزة السكري , ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان يعني أبا حمزة , وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه , ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال من السواد الأعظم ؟ قالوا : جماعة الناس , ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه , فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة , ومن خالفه فيه ترك الجماعة , ثم قال إسحاق : لم أسمع عالما منذ خمسين سنة أعلم من محمد بن أسلم".
قال الشاطبي في"الاعتصام" 2/778 معلقا:" فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم , وهو وهم العوام لا فهم العلماء فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله "           
   وعلَّق ابن القيم في "إغاثة اللهفان" 1/70  على كلام اسحاق بن راهويه قائلاً : "وصدق والله فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها، فهو الحجة وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها، ولاّه الله ما تولّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
   وقال في موضعٍ آخر : " إن الإجماع والحجة والسواد الأعظم  هو العالم صاحب الحق وإن كـان وحـده ، وإن خالفـه أهل الأرض ... وقد شذَّ الناس كلُّهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً ، فكانوا هم الجماعة ، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه هم الشاذون ، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة". "إعلام الموقعين3"/397.
  وهذا الكلام يصدقه أثر ابن مسعود رضي الله عنه إذ يقول : "الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك".  "تهذيب الكمال" للمزي22/264ـ265
متى يكون العالم عالماً ؟:
العلم ليس بالادّعاء , وإنما هو شهادة من أهل الاختصاص , فكما أن الطبيب لا يكون طبيباً إلا إذا شهد له الأطباء بذلك ، كذلك العالم لا يكون عالماً إلا إذا شهد له أهل الشأن بذلك.
قال الشاطبـي في"الاعتصام"2/778: "والعالم إذا لم يشهد له العلماء، فهو في الحكـم باقٍ على الأصل من عدم العلم، حتى يشهد فيه غيره، ويعلم هو من نفسه ما شهد له به ، وإلا فهو على يقين من عدم العلم".
قال مالك رحمه الله : "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك".
رواه أبو نعيم في "الحلية" (6/316), والخطيب في "الفقية والمتفقه"رقم 1037 وهو صحيح.
فانظر – رحمك الله – إلى كلام الإمام مالك , ثم انظر إلى الذين تجرؤوا على الفتوى , من غير أن يشهد لهم أحد من أهل العلم بذلك , ثم هو يخوض في النوازل التي لا يقدر على الكلام فيها إلا خواص أهل العلم , فإذا وقعت الواقعة, تراجع ونكص على عقبيه تائبا!!!  بعد أن أغرق الأمة بالدماء , وقد كان في سعة من هذا الأمر.
هذا والله أعلم وأحكم،والحمد لله رب العالمين.
 


https://islamicsham.org