العزة كل العزة في طاعة الله سبحانه وتوحيده، والقرب إليه، وابتغاء رضاه، والسعي في مرضاته، والتذلل له، والخضوع والخشوع، والإنابة إليه عز وجل.
والمهانة كل المهانة في معصية الله سبحانه والشرك به، والمجاهرة بالآثام، وارتكاب المنهيات والمعاصي، ونسيان الحساب، والانكباب على الفانية، والغفلة عن الباقية.
فالمرء المهان يبذل قصارى جهده في حياته ليستشعر السعادة ولا يجدها، وغاية ما يجده سراب ولذة دقائق مؤقتة تكون بعدها الحسرة والندم، فيجمع المال ليلبي حاجاته ولا يبالي من أين جمع، ويسعى للكسب ولا يبالي كيف الوسيلة، ويلف نفسه بملأ خرب, ويظل يجمع من دنياه ما يمكنه، ويحلم أن يجمع ما لا يمكنه، لا يردعه خوف من ربه، ولا يثنيه تذكر اليوم الآخر!.
لكنه، وبينما هو يجمع ويجمع، ويحلم ويحلم، باحثًا عن السعادة المفقودة، واغلًا في حمأة الغفلة، يأتيه أجله، فيكون الخسران كل الخسران، والحسرة كل الحسرة، فلا سعادة ولا راحة، ولا مال ولا بنون، ولا مستقبل ولا أمل .. وإنما الحساب والجزاء والندم .. ولات حين مندم !.
يموت، كأي شيء يموت، فيستريح منه الحجر والشجر والدواب.... كما في الحديث، ويترك ميراثه مما جمعه ليملكه آخرون، وما إن تمر أيام قليلات إلا ويصير طي النسيان، ويلقى جزاء عادلًا موفورًا.
ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال: (مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابّ).
لا شيء سيكون وفيًا له في هذه الحياة التي صارع عليها، حتى أقرب المقربين منه، يصبح همهم ميراثه، ويصبح موته لهم سعادة وفرحة!.
لقد عاش حياته مهانًا إهانة فعلية، بكل المعاني، فقد أهان نفسه ببعده عن ربه، وأهان جسده بغفلته عن العبودية وسقوطه في الإثم، وأهان عقله بإهماله غذاءه الحق من العلم والقرآن والخير، وأهان أسرته والمقربين منه بعدم نصحهم، وعدم تعليمهم الخير، وأهان حياته بإنفاقها فيما لا ينفعها بل يضرها.
إن من عقوبات الذنوب أنه سبحانه أركس أربابها بما كسبوا، وغطى على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم وأهانهم : {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} ومن ذا يكرم من أهانه الله أو يهن من أكرم؟!.
إن مشهد توديعه لدنياه ليمثل قمة المهانة، فعن أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللَّه عنه قَالَ: (كَانَ النَّبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَملَهَا الرِّجَالُ عَلى أَعنَاقِهِمْ، فَإنْ كَانتْ صَالحةً، قالتْ: قَدِّمُوني، وَإنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ لأهْلِهَا: يَاوَيْلَهَا أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إلاَّ الإنسانَ، وَلَوْ سَمِعَ الإنْسَانُ، لَصَعِقَ) رواه البخاري.
ثم تأتيه المهانة الكبرى يوم القيامة، قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ}.[فصلت: 19-23].