الكاتب : د. بشير زين العابدين
الإستراتيجية الأمريكية في سوريا: أزمة في القيادة وغموض في الرؤية
الحملة العسكرية ضد "داعش" بداية متعثرة
بمجرد إعلان الجنرال جون آلن مبعوثاً خاصاً لتنسيق الحملة ضد "داعش" واجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما انتقادات واسعة ممن رأوا أن اختيار ضابط متقاعد للقيام بمهمة دبلوماسية لم يكن بالقرار الصائب.
وعبر ضباط القيادة المركزية للقوات المسلحة الأمريكية عن امتعاضهم من تجاوز البيت الأبيض مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان والجنرال لويد أوستن قائد القيادة المركزية وتكليف ضابط سابق في سلاح البحرية بهذه المهمة الميدانية، وتساءل الجنرال أنتوني زيني قائد القوات المركزية في المنطقة: "هل يتطلب الأمر تعيين لواء متقاعد للتنسيق؟ ماذا تفعل قيادة القوات المركزية هنا؟ أليست هذه هي مهمتها؟"
وظهرت ملامح الغضب العسكري في رفض البنتاغون طلب جون آلن تخصيص طائرة لتنقلاته متذرعين بأن مهمته دبلوماسية وأن عليه التقدم بهذا الطلب إلى وزارة الخارجية!
ويبدو أن مخاوف العسكريين كانت في محلها؛ إذ إن الاجتماع الأول لآلن مع زعماء القبائل السنية العراقية في العاصمة الأردنية عمان كان كارثياً، حيث رافقه مساعد وزير الخارجية بريت مكغورك الذي يحظى بسمعة سيئة لدى عشائر الأنبار نظراً لما عرف به من تأييد لسياسة نوري المالكي الإقصائية ضد السنة، بل إن بعض الأوساط الدبلوماسية الأمريكية كانت تتندر بتسميته: "مستشار المالكي".
لكن الكارثة الأكبر تمثلت في تزامن ذلك الاجتماع المشؤوم مع سقوط هيت بيد "داعش" إثر انسحاب الميلشيات الشيعية من المنطقة ورفض القيادة العسكرية الأمريكية توفير الغطاء الجوي لها، وأدى ذلك إلى مقتل عدد كبير من رجال الصحوات على يد "داعش" وتعليق رؤوس 46 منهم وسط المدينة المنكوبة.
ونتج عن غياب الغطاء الجوي انهيار كامل للصحوات ومقتل أكثر من 800 رجل من عشيرة البونمر، وقد اعترفت القيادة المركزية الأمريكية في المنطقة أنها تلقت مئات طلبات الإسناد الجوي من العشائر لكنها لم تتمكن من الاستجابة لها لأن جون آلن لم يرتب عمليات التنسيق بصورة صحيحة ولم يوجه العشائر الحليفة لكيفية إرسال الإحداثيات.
أما في شمال سوريا فقد واجهت العشائر المتحالفة مع أمريكا مصيراً مشابهاً للصحوات العراقية، ومثلت هزيمة حركة "حزم" في إدلب نكسة كبيرة لدى المجموعات التي كانت تعول على الدعم والتسليح الأمريكي لترجيح كفتها في المواجهة مع "داعش"، ونقلت الصحافة الغربية عن قادة "حزم" امتعاضهم من نكث الأمريكان بوعودهم وعدم توفير السلاح اللازم والإسناد الجوي لهم في المعارك ضد جبهة النصرة.
وأمام هذه الإخفاقات المتتالية ألقى توني بدران (27 أكتوبر) باللائمة على البيت البيض الذي صاغ إستراتيجيته العسكرية بناء على دراسة أعدها مارك لينش أستاذ السياسة في جامعة جورج واشنطن؛ وتبين فيما بعد أن هذه الدارسة تعتمد على معطيات خاطئة، إذ إنها افترضت إمكانية إنشاء جبهة سعودية-تركية-إيرانية مشتركة في مواجهة "داعش"، إلا أن السعوديين بدوا متشككين من الدور الإيراني في حين صعدت إيران حملتها ضد الرياض، وخابت جهود الإدارة الأمريكية لإقناع تركيا ودول الخليج العربية بالتعاون مع الميليشيات الشيعية والكردية الانفصالية لقتال "داعش" والتخلي عن فكرة إسقاط بشار أسد، مما اضطر وزير الدفاع الأمريكي تشك هيغل إلى إرسال خطاب للبيت الأبيض في نهاية شهر أكتوبر الماضي يحذر فيه من أن التحالف قد ينهار إذا لم توضح الإدارة الأمريكية موقفها من بقاء بشار في الحكم.
ويأتي هذا الخطاب إثر شكاوى رفعها ضباط أمريكيون في المنطقة من رفض أطياف المعارضة فكرة تشكيل "معتدلة" تحمي السوريين من وحشية "داعش" لكنها لا تحرك ساكناً تجاه "وحشية" نظام بشار.
تردد الحلفاء
وفي دراسة نشرها معهد واشنطن (27 أكتوبر) شكك المحلل العسكري الأمريكي جيفري وايت في فرص نجاح الخطة الأمريكية لتجهيز 15 ألف مقاتل من المعارضة "المعتدلة" في غضون ثلاث سنوات، إذ إن هذه الخطة تعتمد على تعاون قوى إقليمية مثل: تركيا والسعودية والأردن، لكن هذه الدول لا تتفق مع واشنطن في تحديد الألويات وترى ضرورة التركيز على إسقاط حكم بشار، في حين تريد الإدارة الأمريكية أن ينحصر دور هذه القوات في قتال "داعش" وحماية المناطق المحررة شمال البلاد.
وبعد أن قامت بعض دول الخليج العربية بتنفيذ نحو 90 بالمائة من الطلعات الجوية وتحملت التكاليف الباهظة للحملة العسكرية الأمريكية ضد "داعش"؛ سادت مشاعر السخط تجاه الإدارة الأمريكية إثر التسريبات التي نشرت في نهاية شهر أكتوبر الماضي حول المفاوضات بين واشنطن وطهران.
وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد نشرت تفاصيل خطاب أرسله الرئيس الأمريكي إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في منتصف شهر أكتوبر الماضي يحثه فيها على التعاون مع واشنطن في الملف النووي وفي محاربة "داعش" متعهداً لخامنئي بأن العمليات العسكرية لن تستهدف إسقاط نظام بشار أسد أو أجهزته الأمنية في دمشق.
وعلى الرغم مما قدمته بعض الدول الخليجية من دعم مالي وعسكري لإنجاح الحملة التي تقودها واشنطن؛ إلا أن الإدارة الأمريكية تصر على استبعاد هذه الدول من المفاوضات والمحافظة على سرية الاتصالات مع إيران، في حين تسرب طهران بين الفينة والأخرى تفاصيل ما يدور بين كيري وظريف في فيينا ومسقط من تفاهمات حول الترتيبات النهائية للمنطقة.
كما أثارت عملية تزويد سلاح الجو الأمريكي "داعش" بالسلاح والعتاد "عن طريق الخطأ" انتقادات عنيفة من قبل الدول العربية الحليفة التي ضغطت على واشنطن لاستدراك الوضع المتردي لعمليات التحالف من خلال توجيه ضربات نوعية، وألمحت بعض الدول الخليجية إلى إنها لن تستطيع تحمل أعباء الإحراج الدولي الناتج عن فشل التحالف في وقف تقدم التنظيم.
وفي دراسة حول سير عمليات التحالف ضد "داعش" أشارت مجلة "فورين بوليسي" (5 نوفمبر) إلى أن العبء المالي والعسكري قد وقع على دول الخليج العربية في ظل امتناع الدول المتبقية من التحالف -الذي يضم 62 دولة- عن المشاركة في العمليات القتالية، وعبرت الدراسة عن قلقها من تضاؤل الدعم الأوروبي الذي اقتصر على خمس دول في مقابل 13 دول أوروبية شاركت في الحملة العسكرية ضد نظام القذافي بليبيا عام 2011؛ ففي حين أرسل الفرنسيون 29 طائرة مقاتلة وحاملة طائرات وخمس سفن قتالية إلى سواحل ليبيا عام 2011 اكتفت في الحملة الحالية بإرسال 11 مقاتلة، ولم ترسل بريطانيا سوى 8 مقاتلات للمساهمة في الحملة.
وعزت الدراسة ضعف المشاركة الأوروبية إلى تردي الوضع الاقتصادي في أوروبا، وتقليص الإنفاق العسكري لدى الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، والذي بلغ 270 مليار دولار عام 2013، ويمثل أقل من نصف الإنفاق العسكري الأمريكي في العام الماضي.
القضاء على "داعش" أم إنقاذ النظام؟
وفي مقابل استبعاد الائتلاف السوري وقيادة الجيش الحر من اجتماعات الترتيب للحملة في منتصف شهر أكتوبر؛ قدمت الإدارة الأمريكية تطمينات للنظام السوري عن طريق الحكومة العراقية وبعثة الأمم المتحدة في دمشق أن العمليات الجوية لا تستهدفه، وأنها لا تنوي مساعدة المعارضة في معاركها ضده، وكشفت صحيفة "واشنطن بوست" (9 نوفمبر) عن وجود تنسيق بين النظام وقوات التحالف لإطفاء جميع الرادارات الأرضية ومضادات الطائرات السورية لدى مرور طائرات التحالف في طريقها لقصف مواقع "داعش" شمال البلاد.
ونقلت صحيفة "غارديان" (6 نوفمبر) عن أحد الذين قابلوا بشار أسد في الأيام الماضية ارتياحه من نتائج عمليات التحالف ضد "داعش"؛ إذ إنها منحته الأمل ووفرت له المهلة الكافية لإعادة تجميع قواته المبعثرة، وتصعيد عمليات قصف المعارضة التي ارتفعت وتيرتها من 13 طلعة في اليوم إلى استهداف ما يزيد عن 40 هدف بمناطق المعارضة في حماة وإدلب، ويعمد النظام إلى إستراتيجية التصعيد بالتزامن مع عمليات التحالف للتغطية على جرائمه وامتصاص السخط في صفوف العلويين الذين كانوا قد خرجوا في مظاهرة عارمة في حمص إثر تشييع جنائز من قضوا حتفهم في تفجير انتحاري مرددين شعارات تطالب بإسقاط رموز النظام.
ويكمن تلمس مشاعر السخط نفسها لدى سكان اللاذقية وطرطوس الذين ضاقوا ذرعاً من استمرار القتال، إذ تحدثت مجلة "إيكونوميست" (16 أكتوبر) عن ظاهرة لصق صور قتلى النظام على الجدران في مناطق العلويين، ونقلت عن أحدهم قوله: "فني أبناؤنا في الدفاع عن النظام، لم يبق لدينا ما نقدمه"، وتحدث موقع "بي بي سي" عن انتشار عصابات علوية في المناطق الموالية للنظام بضواحي دمشق، حيث تقوم هذه المجموعات بنهب ممتلكات السكان، ونقل الموقع عن أحد الوجهاء قوله: "إن المناطق الموالية لا تخضع لسلطة موحدة بل لعصابات علوية تعمل تحت مسمى "الدفاع الشعبي"، مضيفاً: "كنا نظن أن عمليات النهب هذه هي إستراتيجية يقصد بها تخويف المعارضين، لكن امتداد التعديات لتشمل المناطق الموالية تشير إلى أن بشار قد فقد السيطرة بالفعل".
وفي ظل الأوضاع الأمنية المتردية تأتي الخطة الأمريكية كطوق نجاة للنظام، حيث تضغط واشنطن على المعارضة للتوصل إلى اتفاقيات وقف إطلاق نار في مناطق الصراع برعاية أممية، ومن ثم إحلال الكتائب "المعتدلة" التي تدربها أمريكا بعد تعهدها بالامتناع عن شن أية عمليات ضد النظام، وقد عبر فريدريك هوف مستشار الخارجية الأمريكية السابق (28 أكتوبر) عن دهشته من تناقض الخطة الأمريكية التي تقضي بإنشاء قوة عسكرية قادرة على إلحاق الهزيمة بداعش لكنها ليست قوية بما فيه الكفاية لتحرير دمشق، بل تشترط واشنطن اعتراف النظام السوري والميليشيات الإيرانية بهذه التشكيلات الجديدة التي سيقتصر دورها على حماية الشعب السوري من وحشية "داعش" دون أن تحميهم من "وحشية" النظام!
وأكد المحلل العسكري جيفري وايت أنه من غير الممكن إحلال قوات وطنية بمهام دفاعية في مناطق ذات طابع قتالي؛ إذ إن ذلك الإجراء سيجعلها عرضة للإبادة من قبل "داعش"، كما أنه من غير الممكن أن يطلب من هذه القوات الإعراض عن تجاوزات ميليشيات النظام، خاصة وأن كتائب المعارضة قد أحرزت إنجازات مهمة جنوب البلاد ولن تتنازل عن مكتسباتها لصالح خطة سياسية غير واضحة المعالم.
وبخلاف إستراتيجية أوباما رأى وايت أن الأحداث في سوريا لا تسير وفقاً للمخططات الأمريكية، مشيراً إلى ضرورة إنقاذ الموقف عبر الاستفادة من الكتائب المعتدلة الموجودة حالياً بدلاً من إنشاء قوات بديلة.
ويجدر التأكيد على أن المعايير التي وضعتها الإدارة الأمريكية للكتائب "المعتدلة" التي تستحق الدعم والتسليح لا تنطبق على أي من الفصائل المقاتلة على الأرض، بل إن أوباما قد عبر عن عدم قناعته بالمعارضة الحالية وأبدى رغبته في "إحلال" قوات بديلة عنها وتدريبها وفق مواصفات أمريكية خاصة.
ويبدو أن واشنطن قد وجدت ضالتها في "وحدات حماية الشعب"؛ الذراع العسكري للاتحاد الديموقراطي الكردي المتحالف مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي، والتي انتشرت في محافظات الحسكة والرقة وحلب بالتنسيق مع النظام بعد انسحابه من هذه المحافظات عام 2012، وكانت هذه الميليشيات قد تلقت تدريباتها في مخيمات حزب العمال الكردستاني بجبال قنديل شمال العراق، ومنذ ذلك الحين ترفض دخول كتائب المعارضة إلى المناطق التي تسيطر عليها وتمنعهم من الاشتباك مع قوات النظام.
وفي مقابل خذلان الصحوات والقوى "السنية" الحليفة لواشنطن في الأنبار والرقة وحلب وإدلب؛ تركز الإدارة الأمريكية على دعم الأكراد في عين العرب بهدف إنشاء قطاع كردي شمالي منفصل عن السلطة المركزية، ويتميز مقاتلو هذا القطاع بعدم انتمائهم للمعارضة الإسلامية التي تنبذها واشنطن إضافة إلى استعدادهم للتعاون مع الميليشيات الشيعية التي تدافع عن نظام بشار.
ومن خلال هذه الإخفاقات والتناقضات؛ يرى محللون غربيون أن الإدارة لأمريكية لم تستفد من الأخطاء التي ارتكبتها في المنطقة منذ احتلال العراق عام 2003، فقد أكد روبرت بابر محلل شؤون الأمن القومي الأمريكي والعميل السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (2 نوفمبر) أن أخطاء الحملة العسكرية ضد "داعش" ستتجسد في صورة غضب سني عارم نتيجة حرمان الأغلبية من السلطة والثروة والتمثيل السياسي العادل.
قد تنجح الإدارة الأمريكية في توجيه ضربات موجعة لتنظيم "داعش"، لكن سياستها في تمكين الأقليات والإمعان في كبت الأغلبية لن تجلب للمنطقة الأمن والاستقرار.
فهل يدرك حلفاء واشنطن العرب مخاطر تخبط القيادة الأمريكية قبل فوات الأوان؟
https://islamicsham.org