فتوى: هل مقولة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) صحيحة؟
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
الاثنين 7 يوليو 2014 م
عدد الزيارات : 148392

 

هل مقولة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) صحيحة؟

 
السؤال:
نسمع كثيرًا أنَّ من نواقض الإسلام عدم تكفير الكفار أو الشك في كفرهم، وأن من لم يكفر المرتدين فهو كافر. فما صحة هذه العبارة؟ وهل قال بها أحد من أهل العلم؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
 فإنَّ التكفير باب خطير، ومزَلَّة أقدام، ومضَلَّة أفهام، ولذلك اهتمّ العلماء بتوضيحه غاية التوضيح، وقاموا بضبطِه أتمَّ ضبط، ومن ذلك قاعدة: "من لم يكفِّر الكافر فهو كافر"، فهي قاعدة صحيحة في أصلها تتعلق بردِّ النصوص الشرعية وتكذيبها،  لا في وقوع بعض أفراد المسلمين في الكفر، وبيانها كما يلي:
أولاً: قاعدة: "من لم يكفِّر الكفار أو شكَّ في كفرهم أو صحَّحَ مذهبهم فهو كافر"، قاعدةٌ صحيحة، أجمع عليها علماء المسلمين قديمًا وحديثًا؛ لأن من لم يكفر الكفار المقطوع بكفرهم بنصِّ القرآن والإجماعِ: فهو مكذب للقرآن والسنة.
قال القاضي عياض في كتابه" الشفا": "وَلِهَذَا نُكفِّر من لم يُكَفِّر مَنْ دَانَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمِلَلِ.. أَوْ وَقَفَ فِيهِمْ، أَوْ شَكَّ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ.. وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَاعْتَقَدَهُ وَاعْتَقَدَ إِبْطَالَ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَاهُ.. فَهُوَ كَافِرٌ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ".
ثم بين السبب بقوله: "لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمَنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ".
قال النووي في "روضة الطالبين": "مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى، أَوْ شَكَّ فِي تَكْفِيرِهِمْ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَاعْتَقَدَهُ".
وقال البهوتي في "كشاف القناع": "فهُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}".
فهي من قواعد التكفير المتعلقة بردِّ النصوص الشرعية وتكذيبها، لا في وقوع بعض أفراد المسلمين في الكفر أو ارتكابهم ناقضًا من نواقض الإسلام؛ لذا لا تطبق هذه القاعدة إلا إن كان الخبر الوارد في التكفير صحيحًا متفقًا عليه، وبالتالي يكون من ترك تكفير مرتكبها رادًا لهذه الأخبار مكذبًا لها.
ثانياً: هذه القاعدة تشمل ثلاثة أمور:
الأول: وجوب القطع بكفر كل مَن دان بغير دين الإسلام من اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم على اختلاف مللهم وشرائعهم؛ إذ إن كفر هؤلاء ثابتٌ بنصوص عامة وخاصة من الكتاب والسنة.
فمن النصوص العامة: قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسُ محمد بيده، لا يسمعُ بي أحد من هذه الأمَّةِ -يهودِيّ ولا نصرانيّ- ثم يموت ولم يُؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به ، إلا كان من أصحابِ النَّار) رواه مسلم.
ومن النصوص الخاصة: قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة: 73].
فمن لم يكفر هؤلاء أو شكَّ في كفرهم أو صححَ دينهم وعقائدهم : فقد كذَّب الله -تعالى- ورسولَه صلى الله عليه وسلم، وردَّ حكمهما.
وقد نقل القاضي عياض في كتابه " الشفا" الإجماع على: " كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلَّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ وَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ، أَوْ شَكّ".
الأمر الثاني الذي تشمله القاعدة: وجوب القطع بكفر طوائف ومذاهب الردة المجمع على كفرهم وردتهم، كالباطنية من القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والدروز، والبابية والبهائية والقاديانية.
فقد حكم أهل العلم على هذه الطوائف بالكفر والردة؛ لاعتقاداتهم المنافية لأصول الإسلام من كل وجه، فمن لم يكفر هؤلاء أو شك في كفرهم بعد العلم بحقيقة حالهم ، فقد صحح مذهبهم وعقائدهم الكفرية، وطعن في دين الإسلام، فيكون كافراً مثلهم .
قال ابن تيمية في "الفتاوى"عن الدروز: "كُفْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ؛ بَلْ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ".
الأمر الثالث الذي تشمله القاعدة: من ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام المجمع عليها بين العلماء، كالاستهزاءِ بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو سبِّهِ، أو جحدِ ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
فمن لم يكفر من ارتكب هذا النوع من النواقض؛ لإنكاره  أن يكون ما قاله أو فعله كفرًا ، فهو كافر مثله.
قال  ابن تيمية فيمن اعتقد جواز سب الصحابة أو اعتقد اعتقادًا كفريًا: "أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة ، فهذا لا شك في كفره ، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره".
ثالثًا: قاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) لا تشمل:
1- ما اختلف العلماء في عدِّه من المكفِّرات، كاختلافهم في تارك الصلاة تكاسلاً، فمنهم من عدَّه كفراً مخرجاً من الملة، ومنهم من لم يوصله إلى ذلك، فلا يقال فيمن لم يكفر تارك الصلاة كسلاً: إنه كافر.
2-  من امتنع من تكفير مسلم معيَّن ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، فمثل هذا لا يُحكم بكفره؛ لأن تنزيل حكم الكفر على شخصٍ بعينه ليس مقطوعًا به، فقد يكون تكفيره والحكم عليه بالردة صوابًا أو خطأً، وقد يكون التوقُّف في تكفيره لوجود مانع، أو عدم توفر شرط، أو عدم قيام حجَّة، ونحو ذلك.
فلا يدخل في هذه القاعدة: من لم ينزل أحكام الكفر المتفق عليها على بعض المُعيَّنين، كمن لم يُنزِّل أحكام الطواغيت أو الحكم بغير من أنزل الله على أعيان الطوائف والأفراد؛ فإن الكفر بالطاغوت أصلٌ في الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا}، لكن تنزيل الطاغوت على فردٍ معينٍ محلُّ اجتهادٍ ونظر.
وحينها لا يقال: إن من لم يكفر مرتكب هذا الناقض فهو كافر؛ لأجل الخلاف أو الاجتهادِ فيه. 
رابعًا: لا يجوز تنزيل هذه القاعدة على الأعيان إلا بعد تحقق شروط التكفير، وانتفاء موانعه.
فالتكفير المُطلق كقول (من لم يكفر الكافر فهو كافر) يختلف عن تكفير معينٍ من الناس بقول (فلان لم يكفر الكافر فهو كافر).
فالأفراد المُعيَّنون متفاوتون بحسب قيام الحجة عليهم، واجتهادهم وتأويلهم، وكثير من الغُلاة لا يُفرِّقون بين هذه المراتب بسبب الجهل بها.
قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية": "الشخص المعيَّن يمكن أن يكونَ مجتهدًا مخطئًا مغفورًا له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله".
 فقد يكون توقف الشخص عن تكفير الكفار الأصليين، أو المرتدين المتفق على ردتهم ناتجًا عن قصور في العلم أو لشبهة رآها، أو غير ذلك من موانع التكفير، ( كالجهل، والخطأ، والإكراه، والتأويل)، فلا بد من التأكد من خلوها جميعها في هذا المعين.
نقل ابن حجر عن الشافعي في "فتح الباري" قوله: "من خالفَ بعد ثبوتِ الحُجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحُجة فإنه يُعذر بالجهل".
وقال ابنُ تيميةَ في "الفتاوى" في بيانِ حقيقةِ عقيدةِ وحدةِ الوجودِ، وأنها أشرُ من قولِ النصارى: "فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِإِجْمَاعِ كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ قَوْلِهِمْ ،  وَمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ ،  فَهُوَ كَافِرٌ كَمَنْ يَشُكُّ فِي كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ".
فقد اشترط لهذا التكفير شرطين: معرفة قولهم أي معرفة حالهم ، ومعرفة دين الإسلام أي الأدلة على كفرهم.
فلا بد من إقامة الحجة على من لم يكفر الكافر، بتعليمه، وتوضيح الأمر له.
خامسًا: ضَلَّ في هذه القاعدة فريقان: فريقٌ فرَّط وضيع، وفريقٌ أَفْرَطَ وغلا.
1- فأمَّا المضيعون: فلم يأخذوا بهذه القاعدة، وجحدوها، ولم يروا تكفير من لم يكفر الكفار بعد توافر القيود والضوابط.
وبعضهم زعم أنَّ تكفير الكافر مخالف لحرية الاعتقاد، ومنهم من نادى بوحدة الأديان، أو مساواتها ، وهذا القول تكذيب لله ورسوله وجحد لما أجمعت عليه الأمة.
2- وأما الغلاة: فقد توسعوا في هذه القاعدة، حتى أدخلوا فيها المسلم الذي رموه بالردة والكفر، ثم ألزموا الآخرين بتكفيره، فإن لم يفعل كفروه عملاً بهذه القاعدة، زعموا!!.
وأخيرًا:
فإنَّ التكفير والحكم بالردَّة أمر خطير، وله آثار تمتد لتشمل التفريق بين الزوجين، وانقطاع التوارث بين المرتد وورثته، والحكم بقتل المرتد، وعدم الصلاة عليه، وغيرها ، فلا ينبغي أن يُقدم عليها المسلم، بل لا يكون ذلك إلا للراسخين في العلم ممن بيدهم الفصل والقضاء.
قال أبو حامد الغزالي في "الاقتصاد في الاعتقاد": " ينبغي الاحترازُ من التكفيرِ ما وجدَ إليه سبيلاً، فإن استباحةَ الدماءِ والأموالِ من المصلين إلى القبلة المصرِّحين بقولِ لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأُ في تركِ ألفِ كافرٍ في الحياةِ أهونُ من الخطأِ في سفكِ مِحْجَمَةٍ من دم مسلم".
و(المِحْجِمة): آلة الحجامة، أي المقدارُ اليسير من الدم الذي يكون في آلةِ الحجامة .
وقال الشوكاني في "السيل الجرار" : "اعلم أنَّ الحكمَ على الرجل المسلمِ بخروجه من دين الإسلام ودخولِه في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليومِ الآخر أن يَقْدُمَ عليه إلاَّ ببرهانٍ أوضحَ من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية عن جماعةٍ من الصحابة أنَّ: مَنْ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا".
نسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا ويجعلنا من الأمة الوسط لا غلو ولا جفاء، وأن ينصرنا على أعدائنا المجرمين، والحمد لله رب العالمين.
( لتحميل الفتوى مطوية pdf من هنا)

https://islamicsham.org