بين النظرية والتطبيق
الكاتب : د. معن عبد القادر
الاثنين 5 مايو 2014 م
عدد الزيارات : 26281

 

بين النظرية والتطبيق

 

كنت يوماً من أيام الشباب في حلقة من حلقات العلم المباركة مع أحد العلماء ممن التف حوله شباب الصحوة وطلبة العلم لحسن تأصيله وتفصيله وقوة عبارته واستدلالاته.
وكنت قرأت وسمعت منه قبل ذلك تأصيلا متميزا للخلاف بين العلماء، أسبابه وصوره، وكيف نتعامل معه، وكان من أنفس الدروس العلمية التي تدارسناها بيننا نحن الشباب.
في تلك الحلقة العلمية ذكر له سائل امرأةً متحجبة تغطي جسمها كله وتكشف الوجه والكفين، فقال الشيخ: لا يجوز لها أن تكشف الوجه والكفين، قال السائل: يا شيخ، هي طالبة علم، وتأخذ برأي الشيخ الألباني،  قال الشيخ بحدة: الشيخ الألباني ليس نبياً ! لا يجوز لها أن تكشف الوجه والكفين. 
في ذلك اليوم عدت إلى البيت مشوشاً، أليست هذه مسالة خلافية منذ القدم؟ ألم يذكر السائل أن المرأة تأخذ برأي معتبر؟ لماذا هذا الجواب الحاد من الشيخ إذن؟
إنه الفرق بين النظرية والتطبيق.
هل نطبق كل ما ننظّر له؟
عادت إلي هذه الصورة بعد عودتي من جلسات تأسيس المجلس الإسلامي السوري في اسطنبول، وبعد أن ووجه بنقد حاد من البعض بسبب تركيبته وتشكيله، ولأنه ليس على الصورة التي يحبون.
من هؤلاء الناقدين من يؤكدون في كل مناسبة أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وتبعد شر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين، باحتمال أدناهما، ويحفظون كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "لا ينبغي لرجل أن يعيب نورا فيه ظلمة إلا إذا حصل له نور لا ظلمة فيه"، وغير ذلك . فأين هم عن تطبيق هذه القواعد في الواقع؟
إن مشروع المجلس الإسلامي السوري مشروع موازنات بين المصالح والمفاسد بامتياز. هناك تيارات و مدارس في المجتمع السوري، بينها تباين، بل اختلاف، بل تضاد أحيانا، وهناك مصلحة ظاهرة  في التقائهم و تحالفهم لتشكيل مرجعية اعتبارية - على الأقل - ضمن الدائرة المتفق عليها بينهم، في خضم هذا البحر المتلاطم من الفتن والأزمات. ثم قد ينجح المشروع وقد لا ينجح، شأنه شأن كل التحالفات السورية التي تتشكل منذ انطلاقة الثورة.
ليس المطلوب أن ينكر الناس خلافاتهم القديمة، ولا أن تدغدغهم العواطف ليهمشوا هذه الخلافات ويقللوا من أثرها، فهذا غير ممكن، ولو فعلوه ليوم أو أسبوع، فسرعان ما سيفرض الخلاف نفسه عليهم.
المطلوب أن تقبل كل مدرسة بأن تجلس مع مخالفيها من المدارس الأخرى ولو كانت ترى في هذا مفسدة، مراعاة لمصلحة تشكيل مجلس شامل لا تشعر فيه مدرسة بالإقصاء، وذلك حرصا على حشد الأكثرية وراء المجلس، للمّ الشعث وجمع الشتات. وحتى لو كانت مدرسة ما قادرة على الاستحواذ على المجلس فالمصلحة ألا تفعل ذلك في هذه الظروف التي نعيشها.
ليس المطلوب أن يزكي كل طرف الأطراف الأخرى المشاركة له في المشروع حتى يقبل بالعمل معه، ولكن المطلوب أن يتقبل ما يراه مفسدة من العمل مع بعض من لا يحب ولا يريد بسبب منهجه أو أسلوبه الفظ أو المراوغ أو المداهن، من أجل مصلحة توجيه " بوصلات" الجميع نحو اتجاه متقارب، أو على الأقل أقل تنافرا.
وهذا الأمر – القبول بالمفسدة لأجل مصلحة أكبر – سهل على اللسان قوله، عسير على النفس فعله  !
القبول بالمفسدة وارتكابها لأجل تحقيق مصلحة أكبر منها ليس يسيرا أبدا.
يقول ابن القيم في التعليق على أحداث صلح الحديبية، وماكان من عمر رضي الله عنه من اعتراض على الصلح في أول الأمر: "كُلُّ مَنِ الْتَمَسَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعَالَى مُرْضٍ لَهُ، أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْمَوَاضِعِ وَأَصْعَبِهَا وَأَشَقِّهَا عَلَى النُّفُوسِ، وَلِذَلِكَ ضَاقَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ ضَاقَ، وَقَالَ عمر مَا قَالَ، حَتَّى عَمِلَ لَهُ أَعْمَالًا بَعْدَهُ".
الأيسر على النفس أن ترفض كل ما ترى فيه مخالفة شرعية وتستريح ! لكن هل هذا هو الصحيح شرعا؟
قد يبرر الإنسان لنفسه هذا الرفض العام بأنه لا يقبل بالمنكر مطلقا، ويحاول أن يدلل لموقفه بالأدلة الشرعية، لكن السؤال : أليس ذلك إذن نسف لقاعدة المصالح والمفاسد !؟
لعل من المهم لهؤلاء أن يعلموا أن من يرتكب المنكر لأجل مصلحة أعلى، فلا يعد الأمر في حقه منكراً، وأنه إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم آكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركاً لواجب في الحقيقة، وإذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً على الحقيقة، وإن كانت المنازعة في مجرد التسمية فهو خلاف يسير لا يضر ولكن المقصود هو نفي الإثم عن هذا وذاك.
 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية موضحا لهذه المسألة: " وإذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمها إلا بفعل أدناها، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً على الحقيقة"
ويقول: " إن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به بل يكون محرماً ، إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته"
إن في تعلم العلم وتعليمه خير كثير ونفع للناس، لكن الأكمل أن يظهر أثر العلم والفقه في العمل والتطبيق.  
روى أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ مثلَ ما بعثَني اللهُ به عزَّ وجلَّ من الهدَى والعلمِ كمثلِ غيثٍ أصاب أرضًا . فكانتْ منه طائفةٌ طيِّبةٌ . قبِلتِ الماءَ فأنبتتِ الكَلأَ والعشبَ الكثيرَ . وكان منها أجادِبُ أمسكتِ الماءَ . فنفعَ اللهُ بها النَّاسَ . فشرِبوا منها وسقَوْا ورعَوْا . وأصاب طائفةٌ منها أخرَى . إنَّما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً . فذلك مثل من فقِهَ في دينِ اللهِ ، ونفعَهُ بما بعثَني اللهُ به ، فعلِمَ وعلَّمَ . ومثلُ من لم يرفعْ بذلك رأسًا . ولم يقبلْ هدَى اللهِ الَّذي أُرسلتُ به" رواه مسلم
 

https://islamicsham.org