شرعَ الإسلام العظيم أخلاقاً وآداباً اجتماعية حضارية تخص دخول البيوت والمكوث فيها؛ لما في ذلك من منع للتهمة والخلطة والخلوة وما يمكن أن يجلب العداوات أو يجلب المعاصي والآثام ونسعى أن نجمل ذلك في نقاط مهمة ( * ) :
الأولى: الآيات التي بينت تلك الأخلاق إجمالا لكنها بينته تبيينا وافيا شافيا، فقال تعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ } [النور: 27-29].
فهو أمر للمؤمنين أن: لا تدخلوا بيوت غيركم حتى يؤذن لكم، وحتى تسلموا على أهل البيت، حتى لا تنظروا إلى عورات غيركم، ولا تطلعوا إلى ما لا يحل لكم الاطلاع عليه، ولا تفاجئوا الساكنين الوادعين، فتحرجوهم أو تزعجوهم، فيحدث الاشمئزاز، والتضايق، والكراهية, فلا بد إذن من الاستئذان قبل الدخول والسلام خارج الباب لمعرفة الداخل, وكان ابن عباس –رضي الله عنه- يفسر الاستئناس بالاستئذان, وكأن الاستئناس لا يحصل إلا بعد الاستئذان وحصول الإذن .
الثانية: استحباب الاستئذان أن يكون ثلاثا، فإن أذن للزائر والا فلينصرف؛ لحديث أبي موسى أنه استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له فانصرف, فطلبوه فوجدوه قد ذهب, فلما جاء قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ) متفق عليه, قال مالك: "الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع".
الثالثة: تدل الآية على السلام والاستئذان معا, ومن السنة ألا يستقبل المستأذن الباب حتى لا يطلع على العورات, بل ينحرف يميناً أو شمالاً؛ لأن الاستئذان إنما شرع لمنع النظر والاطلاع على العورات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) أخرجه أبو داود.
الرابعة: ينطبق هذا الأدب سواء أكان الباب مفتوحاً أو مغلقاً, وسواءً أكان الطارق أعمى أو بصيراً؛ لأن من العورات ما يطلع عليه بالسماع, وأجاب العلماء على حديث "إنما الاستئذان من النظر" أنه جاء على الغالب .
الخامسة: تنطبق تلك الأحكام –أيضاً- على الرجال والنساء, والمحارم وغير المحارم؛ لأن الحكم عام, فقد أخرج مالك في الموطأ أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، قَالَ: إِنِّي أَخْدُمُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا). وروى الطبري عن طاووس قال: ما من امرأة أكره الاطلاع على عوراتها من ذات محرم.
السادسة: ذَكرَ –تعالى- حكم حالة أخرى هي: حالة فراغ البيوت من أهلها، فقال:{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي: إن لم تجدوا في بيوت غيركم أحداً يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار، فالمانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة.
السابعة: وإذن الصبي والخادم لا يبيح الدخول في البيوت الخالية من أصحابها، فإن كان صاحب الدار موجودا فيها، اعتبر إذن الصبي والخادم إذا كان رسولا من صاحب الدار، وإلا لم يجز الدخول.
الثامنة: قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً} المدار فيه على ظن الطارق، فإن كان يظن أنه ليس بها أحد، فلا يحل له أن يدخلها، لكن يستثني بداهة وشرعا حالة الضرورة، كمداهمة البيت لحرق أو غرق، أو مقاومة منكر أو منع جريمة، ونحو ذلك.
التاسعة: صفة الدق: أن يكون خفيفاً بحيث يُسمع، ولا يُعنف في ذلك، فقد روى أنس بن مالك -رضي اللّه عنه" (أَنَّ أَبْوَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَتْ تُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ) أخرجه في الأدب المفرد.
العاشرة: دليل التعريف بشخص الداخل ما روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد اللّه -رضي اللّه عنهما- قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: أَنَا، أَنَا! كَأَنَّهُ كَرِهَهَا)؛ لأن قوله: «أنا» لا يحصل بها تعريف، وإنما أن يذكر اسمه، كما فعل عمر وأبو موسى رضي اللّه عنهما.
الحادية عشرة: قوله تعالى: "وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ"، أي: إن طلب منكم صاحب البيت الرجوع، فارجعوا، فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا، ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان، والوقوف على الأبواب، أو القعود أمامها بعد أن تردوا .
الثانية عشرة: بيّن اللّه تعالى حكم البيوت غير المسكونة، فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ} أي: لا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة، كالفنادق وحوانيت التجار والحمامات العامة ونحوها من الأماكن العامة، إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها، وإيواء الأمتعة، والمعاملة بيعاً وشراءً وغيرهما، والاغتسال، ونحو ذلك.
وهذه الآية الكريمة أخص من سابقتها، ومخصصة لعموم الآية المتقدمة المانعة مطلقاً من دخول بيوت الآخرين، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان للداخل متاع فيها، بغير إذن، كالبيت المستقل المعد للضيف بعد الإذن له فيه أول مرة، ولم يكن مجرد غرفة ضمن غرف أخرى.
الثالثة عشرة: في بيت الإنسان الخاص، فلا حاجة فيه للإذن إن كان فيه الأهل (الزوجة). والسنة السلام إذا دخل. قال قتادة: "إذا دخلت على بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم".
فإن كان فيه مع الأهل أمك أو أختك، فقال العلماء: تنحنح واضرب برجلك حتى تنتبها لدخولك؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها، وأما الأم والأخت فقد تكونان على حالة لا تحب أن تراهما فيه.