الثورة السورية تمر بمرحلة انتقالية صعبة بلا شك، ورغم نشوة المحور الإيراني والإسرائيلي بأجواء صعوبات الثورة إلا أنها قياسات مرحلية لا إستراتيجية لمصالحهما, فالثورة لا تزال قوية على الأرض، ولا تزال تملك المبادرة وإن طال أمدُ الحرب.
ومع التسليم بأن حجم الخسائر من الشهداء والضحايا الأطفال الذين فتك بهم تحالف المحورين فضلاً عن تدمير سوريا هو ضريبة مكلفة للغاية للشعب, إلا أن مدار الصعود بأهداف الثورة السورية هو حبل الخلاص الوحيد، ولا يوجد في سوق المزايدات السياسية من روسيا إلى الخليج ما يحمل مشروعاً حقيقياً للإنقاذ وهو ما تعيه كل أضلاع الثورة في الجيش السوري الحر وحلفائه وفي حراكها المدني وقواعدها الشعبية.
وأمام هذا المشهد فإن التقدم نحو ترتيب فكر وبرنامج البيت الداخلي للثورة هو المدار الذي يصنع التقدم للنصر, وهذه الدراسة تطرح إمكانية الثورة لتغيير قواعد اللعبة الجديدة في المنطقة لصالحها بدل التحالف عليها.
إنَّ أول ما نحتاج للتعرض له في فهم المحيط الإقليمي والدولي للثورة السورية هو: التغيرات المركزية، وتقدم التحالف الدولي الإقليمي الذي يجمع مصلحيا تل أبيب وطهران، ومحورًا خليجيًا وواشنطن في جبهة موحدة لمواجهة الربيع العربي في معركة مركزية مع مصر، وإن كانت بدأت من قبل ذلك مع الثورة السورية، وأشرنا لها في مقالات سابقة, من خلال الحدِّ من قوة الزحف العسكري للثوار بحجب التسليح والغطاء السياسي لمذابح المحور الإيراني.
غير أننا نرى أنه من الخطأ أن تُحسب كل تفاصيل المشهد المصري على أنها برنامج موحّد يوجّه للثورة السورية, فأطراف التحالف ضد مصر وربيعها تبدو كتلة صلبة ضد الديمقراطية الوليدة, فيما الوضع في سوريا يختلف لمخاوف أطراف التحالف من التقدم الإيراني المركزي للمنطقة العربية, والقول بأن فكرة إعاقة مشروع الحرية والسيادة الشعبية للوطن العربي بعد الربيع هو قائم في الاتجاهين المصري والسوري صحيح, لكن هناك فروقا تفصيلية مهمة للغاية تحتاج الثورة السورية أن تعبر من خلالها في مساحاتٍ صعبة لأجل تجميع كل عناصر تحييد الخصوم والإفادة من تقاطعاتهم وصراعهم لتجييره لمخزون النصر المركزي بإزالة نظام الأسد.
ومؤكد أن الترقب في المشهد المصري يؤثّر في الملف السوري، خاصة بعد أن وضعت رابعة العدوية عصاً غليظة في دولاب الانقلاب وأربكت تقدمه، وبرزت على السطح القومي المصري بوضوح عودة الدولة العميقة ونظام الرئيس مبارك إعلاميا وأمنياً, وهو ما جعل التحالف الإقليمي الدولي في وضع متردد وقلق تجاه قدرات الفريق السيسي ونتائج الحسم الدموي الذي يُعّد له وأين سيتجه.
وفي ظل هذا الوضع، أعلن وزير الخارجية الجديد في القاهرة مجموعة مواقف إذا أضفناها لما تعرضت له الجالية والقضية السورية معيشياً وإعلامياً بعد الانقلاب, فهي تؤشّر لتوجه ضد الثورة وتقارب مع إيران التي يتبنى موقفها في الأصل التيار الناصري أحدُ أهم أركان العمل السياسي المساند للانقلاب.
ولكنّ كل هذا الموقف في القاهرة لا يملك الكثير على الساحة الإستراتيجية للإضرار بالثورة السورية, والأهم من ذلك موقف المحور الخليجي المساند للانقلاب، والذي ينظر إلى مصر بعين وإلى سوريا بالعين الأُخرى بقلقٍ وترقب, وذات هذا المحور المشكّل من أربع دول يختلف في تقييمه للوضع في سوريا.
فهناك ضلعٌ حسمَ موقفه مبكراً، ولديه علاقة وجسور مع إيران حتى ولو أظهر بعض الملاعنةِ لها في إعلامه وهو يعتقد أن هزيمة الثورة في سوريا مهمة ضرورية له ومكملة لمشروع تصفية الربيع المصري ومن ثم العربي, أما الضلع الآخر فهو قلقٌ جداً، ومع تحفُّزه ضد الإسلاميين وضد حرية سيادة الربيع العربي، إلا أنّه يخشى بالفعل من حسم إيران للمعركة السورية بفضل الغطاء الإسرائيلي الذي سيرتد عليه قطعاً.
ولذلك تحتاج الثورة السورية إلى إدارةٍ سياسية حكيمة لهذه الملفات تضغط على الجراح وتعبر الجسور لإعادة هيكلة الزحف الجديد للثورة وهي تبرز لنا في العناصر التالية:
1- أول ما تحتاجه الثورة هو تجديد رسم الخريطة الفكرية لها، ثم السياسية، وتسخير القدرات القتالية لها، وأمام ذلك تحتاج إلى ترتيب الأفكار عبر القناعات الشرعية الثابتة والمصالح الوطنية والقدرات التدريجية لها، وليس القفز عند كل خبرٍ أو إشاعة, ولا تغير منهجيتها المحكمة لأجل اضطراب سياسي أو دعم شعبيٍ خليجي له غيرةٌ دينية محمودة، لكن لا يمكن أن تَجعل بوصلة إدارة الثورة المعقدة في يده أو في تصريحاته أو في بثه المعنوي الإعلامي، وتكون الثورة خاضعةً له بدلاً من أن يخضع الرأي العام العربي إلى رؤية الثورة الإستراتيجية للتحرير.
2- العقيدة القتالية "للجيش السوري الحر" والفصائل الحليفة هي تخليص سوريا من هذا النظام الطاغي كمهمة مركزية, مع ما يحتاجه من ترتيب تدريجي وترحيل بعض الأولويات, وهذا من فقه الشريعة وليس تخلياً عنها, وما نقصده أنّ مصلحةَ إزالة هذا النظام القاتل في فقه الشرع يخضع لمدارات الأصول والقياس كضرورات عملية، ولا يُربط بالضرورة بمستقبل سياسي فكري محدد, مع تسجيل أن ذلك حقٌ للشعب السوري انتخابياً, لكن بعثرة الجدل حوله الآن وهل الدستور مدنيٌ أم إسلامي -رغم أن الجمع بينهما ممكن- لا يجوز أن تُشعل وتُشغل الثورة عن الهدف الإستراتيجي.
3- مع تأمين الجسم المركزي للثورة السورية في ألوية ومجالس عسكرية رئيسية بقيادة لواء التوحيد وخاصة بعد انضمام كتائب إسلامية لهذه المجالس العسكرية, وحتى مع وجود ضعف واختراقات، فإن دعم هذا التشكيل للجيش السوري الحر هو الضامن بعد رعاية الله لمنع التشظي والاضطراب عبر مشروع دولي يسعى لمصادمة مع جمعاتٍ جهادية أخرى، أو استغلال أخطائها, ولقد أظهر الجسم المركزي قدرةً للعبور بين المضيقين وتأمين سلامة الثورة, فيما تشتيت الدعم عبر تطوع خليجي لا يصب في توحيد الجبهة تبين آثاره السلبية وخاصة في نموذج (القُصير), ولذلك يجب أن يوجه الدعم الشعبي مركزيا.
4- إذا تم هذا التأمين بهذا المستوى فليس على الثورة خوفٌ من أن تعبر بممثلين سياسيين من المجلس الوطني السوري والائتلاف إلى مصالحها، وتأمين سلاح من محور خليجي أو دولي, ولا يجب أن تنخرط في جدل ولا مواجهات حول من يمثل الائتلاف ما دام هذا المحور أو ذاك سيدعم تسليحياً وسياسياً بحسب مزاعمه.
وفي كل الأحوال فإن الثورة السورية ليست بحاجة إلى عداءات جديدة بل إلى تحييدٍ وكسبٍ للمواقف, وفقهُ التخذيل أصلٌ في السياسة الشرعية لمن وعى حروب المدينة النبوية, وليس من الحكمة أن تُعطي فرصةً لأي طرفٍ ليغير موقفه ضد الثورة ما دمتَ ملتزما بمبدئك.
5- ستبقى "تركيا أردوغان" هي المحور الأكثر ثقةً حتى مع وجود مصالح لها ومخاوف من آثار التدخل الإيراني الإسرائيلي وتحريك القضية الكردية في سوريا, ومن المهم لجسم الثورة الرئيسي البقاء على تواصله الخاص الذي يساعده وجود تركيا على طول الحدود لتأمين مرحلة التقدم والتوازن للحسم المتدرج.
6- إن المنهج الفكري للثورة يجب أن يرتفع عن المناقشات الحادة العاصفة والدورية التي يسببها نزف الدماء المروّع وتشظي بعض الأطراف الثورية، وأن يكون خطابه المعنوي موجِّهاً لا خاضعاً لجدل الحالة الخليجية الدينية الشعبية وترديد أخبارها أو إشاعاتها, وبات من المهم جداً الإعلان عن كتيبة للتوجيه المعنوي للجيش السوري الحر وحلفائه يشارك فيها نخبة الفكر والرأي والإعلام من أبناء الشعب السوري.
7- مفهوم الهوية وحق الشعب السوري في خياره التشريعي أمر مؤكد، لكن هناك تفاصيل تحتاج وعياً من قيادات الفصائل، وما هو ما يتوجب المواجهة من عدمها من التدرج, وما الأنموذج الذي يُرجى لتطبيق الشريعة الإسلامية: هل هو نموذج عدالة الراشدين الخمسة ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز وتحقيقهما في بناء دستوري مدني معاصر، والإفادة من نقاط الوعي والقوة في تاريخ الدولة الإسلامية, أم هو نموذج الاستبداد الأموي والعباسي، أم الدول التي تقول إنها تُطبق الشريعة وتغيب عنها شمس العدالة؟
إن على قيادات الثوار أن يُرتبوا التفكير في هذا المسار، ولا يجنح بهم الجدل لخلق أرضية صراع جديدة في حين المسألة لم تُحرر.
بعد تأمين التصور الشامل فإن جمع أطراف اللعبة من جديد، وفهم قواعدها، وإعادة رسم خارطة الطريق في التعامل معها بتوحيد أكبر مسارات الثورة وهياكلها, سيَحول دون مؤامرات الأعداء ويحوّل الجهد إلى خطة عمل متكاملة تأخذ من كل طرف ما يُطيقه، وتُخذّل عن الثورة ما تستطيعه, وترسم هي قواعد اللعبة التي تبني خطة التحرير الواثقة وخطة البناء الواضحة, ولا تزال عناصر القوة الميدانية التي هي الفصل متماسكة بيدِ الثوار رغم بعض الخسائر، ومهمتهم الآن تحشيد الرأي مع السلاح لترفع المشروع الواضح بثقة وتعبر جدل الخلاف لتعيد جدولة الحرب للنصر الكبير ولو طال الطريق.