الأكراد.. قضية تاريخية وصراع مستمر
الكاتب : أسرة التحرير
السبت 5 مايو 2018 م
عدد الزيارات : 5839

الأكراد.. قضية تاريخية وصراع مستمر

 

فرض الربيع العربي واقعًا جديدًا مختلفًا عما كان عليه قبل عام 2011م، فقد انطلقت ثورات شعبية تدعو إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، امتد أثرها إلى أكثر من بلد تحكمه سياط الجلاد وقبضة المستبد، حتى وصل الربيع إلى سورية التي عاشت سنين طويلة تقارع مغتصبها في سبيل حريتها، فحملت لواء التحرر وقادت ثورتها الشعبية ضد نظام الأسد.

تشترك الثورة السورية مع الثورات الأخرى بأنها تريد التحرر من نظام تسلطي يحتكر الحياة السياسية ويمارس القمع ويصادر الحريات ويضع يده على الثروة الاقتصادية للبلاد، إلا أنها تتميز اجتماعيًّا، لطبيعة المجتمع السوري المركّب تركيبًا تتداخل فيه الأديان والطوائف والأعراق والهويات. وإن هذا التركيب كان بارزًا قبل الثورة ضمن حياة وطنية طبيعية، إلا أن النظام السوري عمل على استغلاله وزعزعة استقراره، لتتعمق الشروخ بين الطوائف والأعراق، فحدث تراجع عن الحالة الوطنية الطبيعية التي تجمع في إطارها عددًا من الإثنيات العرقية.

وقد أعادت هذه الحالة الخطاب المذهبي والصراع بين القوميات، وتمثلت في نزعات تخرج على مفهوم الوطنية وتطالب بالانفصالية مما يشكل تهديدًا مباشرًا للكيان السياسي والاجتماعي السوري، في حين أظهرت جماعات كثيرة وعيًا كبيرًا، وساهمت في الحفاظ على المشروع الوطني.

في هذا العدد من مجلة نور الشام نناقش عددًا من النقاط المتصلة بالقضية الكردية، من حيث أصول الأكراد وتوزعهم الجغرافي في المنطقة، وثقافتهم وعاداتهم الاجتماعية، ومشروعهم السياسي ودورهم في الثورة السورية.

 

أصل الكُرد ولغتهم:

اختلف المؤرخون حول عرق الأكراد، وتوصلت بعض الدراسات التاريخية والبحوث الأنثروبولوجية إلى أن الكرد من أصل آري[1]، وأنهم قدِموا من شرق بلاد فارس (إيران)، وكوّنوا الشعب الكردي، واستطاعوا أن يحافظوا على استقلاليتهم طيلة فترة الإمبراطورية الآشورية، ثم ما لبثوا أن انقلبوا على الآشوريين وعقدوا تحالفًا مع الميديين. وقال بعضهم: إنهم مزيج من أقوام آرية وسامية مختلفة سكنوا في بلادهم الحالية، وكونوا الشعب الكردي.[2] ومما يؤكد انتماءهم إلى الجنس الآري أن دينهم الرسمي قبل الإسلام كان (الزردشتية) التي لم تنتشر إلا بين الأجناس الآرية، وإلى الآن هناك من يدينون بهذه الديانة في بعض مناطقهم بأعداد قليلة.

وذكر بعض المؤرخين أنهم من أصل عربي، وأنهم هاجروا مع غيرهم من القبائل العربية من جنوب الجزيرة، وسكنوا المناطق الجبلية، واختلطوا بسكانها، ونسَوا لغتهم العربية، وكوّنوا الشعب الكردي.[3] إلا أن ابن خلدون (ت 808هـ) في تاريخه استبعد نسبة الكرد إلى العرب[4]، وذُكر في تفسير الطبري أنهم أعراب فارس، أي: بدو الفرس.[5]

أما عن أصل التسمية فيرى بعض الباحثين أن تسميتهم بالكرد تعود إلى كلمة كوتو(gutu) التي تعني بالآشورية (المحارب)، وهي مأخوذة من الكلمة الأشوريةKurtu ، وقد تطورت إلى شكلها الحالي بانصهار حرف الراء(R) بعد الواو القصيرة(U).

وينقسم الأكراد إلى أربعة شعوب هي: (كرمانج وكوران ولور وكلهر)، وهم من أقدم الشعوب الآرية التي أقامت مدنية وحضارة، وفرضت نفوذها على القبائل الأخرى، وفرضت لغتها الكردية لغة عامة تستخدمها جميع القبائل والأمم في تلك الإمبراطورية الممتدة من منابع دجلة والفرات حتى خليج العرب، وعاصمتها (آكبتان)[6]

 

ويتكلم الأكراد اللغة الكردية التي تمثل فرعاً من أسرة اللغات الهندوأوربية، وهي التي تضم اللغات الكردية والفارسية والأفغانية والطاجيكية، ويطلق على اللغة الكردية لغة البهلوان، أي لغة الأبطال أو المحاربين، ونشير إلى أن معنى كلمة كرد في الفارسية تعني البطل أو المحارب، وأكد (الفردوسي) في كتابه (الشاهنامة)[7] أن لفظ الكرد لم يطلق إلا على هذا الشعب لما عرف عنهم من الشجاعة النادرة التي امتازوا بها منذ فجر التاريخ.[8]

كردستان موطن الأكراد

وتعد (كردستان) الموطن الأساسي للأكراد إلا أنه لم يشكل بلدًا مستقلاً ذا حدود سياسية معينة في يوم من الأيام، وقد ظهر مصطلح (كردستان) أول مرة في القرن الـ12 الميلادي في عهد السلاجقة، يقول الأستاذ (أسعد شمسي) -وهو أكاديمي كردي-لمجلة (نور الشام):

"كلمة كردستان (وطن الكرد) كاصطلاح جغرافي إداري هي ذات دلالة قوميّة وديموغرافيّة، لم يبتدعها الكرد، بل جاءت على عهد السلطان (سنجار السلجوقي 1118 – 1157م) حين فصل القسم الغربي من إقليم الجبال وجعله ولاية تحت حكم قريبه (سليمان شاه) وأطلق عليها اسم (كردستان)، وشملت هذه الولاية الأراضي الممتدة بين أذربيجان ولورستان (مناطق سناه، دينور، همدان، كرمنشاه.. في إيران) والمناطق الواقعة غرب جبال زاغروس، كشهرزور وكوي سنجق في كردستان العراق.

 كما جاء ذكر الكرد وكردستان في الوثائق والمراسلات الرسميّة العثمانيّة أيضًا، ومؤسس الجمهوريّة التركيّة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك (ت 1938م) نفسه، وأثناء خدمته في المناطق الكرديّة، كان يشير إلى أنه في كردستان، بل كان هذا الاسم متداولًا ومذكورًا في محاضر جلسات البرلمان التركي، في بداية تأسيس الجمهورية".

وعن الإمارات التي حكمها الكرد حكما ذاتيًّا يقول الأستاذ (أسعد شمسي):

"كانت لهم إمارات حتى قبل الحكم العثماني، كـ (الشدادية) أسسها (محمد بن شداد بن قرطق) سنة 951 م، وسقطت على يد الكرج (الجورجيين) سنة 1174 م. وإمارة (بني حسنويه)، أسسها (حسنويه بن حسين البازركاني) سنة 959 م، وسيطر عليها البويهيون سنة 1015 م. و(الإمارة المروانية) أسسها (أبو عبد الله حسين بك دوستك واستولى عليها السلاجقة سنة 1096 م. كذلك كانت هنالك إمارات كردية مستقلة إبان الحكم العثماني كـ (اردلان، بابان، السورانية، البهدينانية، والبوطانية)، لكن أول جمهورية تأسست في العصر الحديث كانت جمهورية (مهاباد) في كوردستان إيران على يد (قاضي محمد) بتاريخ  23/12/1946م".

 

وبصفة عامة فإن معظم أراضي سكن الأكراد تقع في تركيا وإيران وسورية والعراق، ويعيشون بشكل متفرق في دول أخرى أهمها: (أرمينيا وكذلك في أذربيجان وباكستان وبلوشستان وأفغانستان).

ويبلغ عدد سكان إقليم كردستانالعراق -بحسب موقع حكومته على شبكة الإنترنت- 5.2 ملايين نسمة، معظمهم مسلمون سنة، يعيشون في محافظات (دهوك وأربيل والسليمانية وحلبجة)، كما يوجد الأكراد في محافظة كركوك،وبنسبة قليلة في (نينوى وديالى).

وتشير التقديرات إلى أن عددهم في تركيا يقدر بنحو 15 مليون نسمة، ويشكلون 56% من أكراد العالم، و20% من سكان تركيا، ويعيش معظمهم في جنوب شرق البلاد.

أما في إيران فتشير التقديرات إلى أن عددهم يتراوح بين ثمانية وعشرة ملايين نسمة، ويشكلون 16% من أكراد العالم، وما بين 10 و12% من سكان إيران، ويعيش معظمهم في غرب وشمال غرب البلاد.

ويقدر عدد الأكراد في سورية -بحسب تقديرات غير رسمية- بـ1.6 مليون نسمة، ويشكلون 6% من أكراد العالم، و8% من سكان سورية، ويتمركزون في مناطق شمال شرقي البلاد، مثل (الحسكة والقامشلي والمالكية).  [9]

 

ديانة الكرد ودورهم العسكري والمعرفي في التاريخ الإسلامي:

يعتنق الأكراد الإسلام بأغلبية كبيرة، يقول شرف خان شمس الدين البدليسي (ت 1005 هـ): " معظم طوائف الأكراد سُنّة على المذهب الشافعي رحمه الله، فلهم قدم راسخ في الإقبال على العمل بالشريعة الإسلامية، واتباع سنن سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم"[10]. وقد دخلوا الإسلام منذ العقد الثاني للهجرة، وكان موقفهم من الفاتحين ليّنًا، ففتحت معظم بلادهم عن طريق الصلح، وقدموا خدماتٍ جليلةً للإسلام والمسلمين، فكانوا جنود الخلافة في عصورها المختلفة، والمدافعين عن الثغور الإسلامية في وجه الروس والبيزنطيين والأرمن والكرج (الجورجيين)، كما شاركوا في الفتوحات الإسلامية وأظهروا شجاعة نادرة، ونذكر هنا جهد القائد المسلم الكردي أبو مسلم الخراساني (ت 137هـ) الذي فتحت على يديه بلاد الشرق، والذي قال فيه الخليفة المأمون (ت 218 هـ): " أجلّ ملوك الأرض ثلاثة، وهم الذين قاموا بنقل الدول وتحويلها:الإسكندر، وأزدشير، وأبو مسلم الخراساني".[11]

وقد برز الأكراد في التاريخ الإسلامي بروزًا قويًّا من خلال الدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ ) الذي حرر بيت المقدس من الصليبيين بعد توحيد مصر والشام والتصدي لخطر الفاطميين الروافض والمغول.

 

وقد كان للأكراد دور كبير في الجانب العلمي والمعرفي فنبغ منهم علماء تركوا أثرًا كبيرًا في حياتهم، منهم: المؤرخ ابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) والحافظ ابن الصلاح الشهرزوري (ت 643 هـ)، والفقيه اللغوي ابن الحاجب (ت 646 هـ)، والقاضي والمؤرخ والأديب ابن خَلّكان (ت 681 هـ)، وشيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية (ت 728 هـ)، والشيخ سعيد بيران (ت 1343هـ)، والعلامة محمد كرد علي (ت 1372هـ)، والعالم الفقيه بديع الزمان النورسي (ت 1379هـ)، وغيرهم.

 

الهوية العامة للكرد:

انتشرت اللغة العربية والثقافة الإسلامية بين الأكراد ودفعتهم إلى السعي لدراسة العلوم الدينية والمشاركة في ميدان الثقافة والحركة الفكرية، ولذلك يمكن القول إن هوية الأكراد وثقافتهم إسلامية، ومجتمعهم إسلامي، وله خصوصيته، فقد تدخلت العوامل العرقية ضمن الاعتبارات القومية، فقامت العصبية العرقية لتربط بين الأبناء وتأخذ شكلا اجتماعيًّا وسياسيًّا. وتجمع الأكراد عادات وتقاليد موحدة مثل عادات الزواج ودفن الأموات والاحتفالات الدينية والقومية، كما تجمعهم مجموعة من الأساطير والخرافات والأدب الشعبي إضافة إلى الزي الكردي الشعبي.

يقول(باسيلي نيكيتين)في كتابه (الكرد، دراسة سوسيولوجية وتاريخية) يمتاز الكردي باستقامته وبحفاظه على العهد وعطفه النبيل على أقاربه، وسلوكه الإنساني تجاه المرأة، وإحساسه الشاعري وتسارعه إلى التضحية من أجل عشيرته، واعتزازه العميق ببلاده وقوميته، ويتصف أيضًا بحدة الطبع وفورانه المفاجئ، ولكنه يتمتع في الوقت نفسه بروح الدعابة والمرح.[12]

ويقول الأستاذ (أسعد شمسي) لـ (نور الشام):" إن دخول الكرد في الإسلام ربما أشعرهم بكينونتهم كجماعة متميزة بلغتها وتراثها ضمن الجماعة الإسلامية، ولم يمس الإسلام الكيان القومي للكرد داخل وطنهم، بل إنه ساعد على تعزيز ذلك الكيان في وجه الشعوب والأنظمة غير الإسلامية المتاخمة لكردستان، ولا سيما في طرفها الشمالي، كما أنهم أصبحوا جنودًا للخلافة الإسلامية في شتى عصورها، بل أصبحوا سندًا ومدافعًا أمينًا عن الثغور الإسلامية في وجه أعداء الإسلام، أما دورهم في مقاومة الصليبيين والباطنيين بقيادة الناصر (صلاح الدين الأيوبي) فمعروف للجميع.

وفي العصور العباسية كان لهم دور مشهود في الدفاع عن حياض الخلافة، ولا شك أن العدل والأخوة التي لاقاها الكرد في المجتمع الإسلامي ساهم في تشكيل الهوية الإسلامية الجديدة الجامعة لكل الطيف الإسلامي".

إلا أن قسمًا من الأكراد في العصر الحديث سار على طريق مخالف للهوية الكردية والعقيدة الإسلامية، متأثرًا بالدعوات القومية والعلمانية، وقد أسهمت الأنظمة المستبدة في صناعة الحركات اليسارية في المجتمع الكردي وعملت على دعمها وتغذيتها، وهذا ما فعله النظام السوري عندما قدّم الدعم الكبير لحزب العمال الكردستاني.

 

المشكلة الكردية في العصر الحديث

تعود مشكلة الأكراد في العصر الحديث إلى اصطدام الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية عام (1514م) في معركة (جالديران)[13] وتوقيع اتفاقية (أماسيا) عام 1555 بين  السلطان العثماني سليمان القانوني (ت 1566م) والشاه طهماسب1576م) [14]، وتمَّ بموجبها تكريس تقسيم كردستان رسميًّا وفق وثيقة رسمية، نصت على تعيين الحدود بين الدولتين، وخاصة في مناطق شهرزور، وقارص، وبايزيد (وهي مناطق كردية صرفة)، مما شكَّل صفعة لآمال الأكراد في الحصول على استقلالهم.

وقد تمَّ توقيع عدة معاهدات تالية لتلك الاتفاقية، منها معاهدة (زهاو) أو تنظيم الحدود عام (1639م)، وتم تأكيد معاهدة (أماسيا) بالنسبة لتعيين الحدود، مما زاد من تعميق المشكلة الكردية، ثم عقدت بعد ذلك معاهدات أخرى مثل (أرضروم الأولى1823م)، و(أرضروم الثانية 1847م) ، و(اتفاقية طهران1911م)، واتفاقية تخطيط الحدود بين الدولتين الإيرانية والعثمانية عام 1913م في الأستانة، وكذلك بروتوكول الأستانة في العام نفسه.

ودخلت القضية الكردية منعطفًا جديدًا مع اشتداد الصراع الدولي في المنطقة، وخاصةً بين بريطانيا وروسيا، إذ أخرج هذا الصراع القضية الكردية من الحيز الإقليمي إلى النطاق الدولي، فقد بدأت روسيا ثم بريطانيا في وقت مبكر اتصالاتهما بالأكراد كما حاولت فرنسا الأمر ذاته.

ونشير إلى أن فكرة الدولة الكردية المستقلة عن الدولة الإسلامية الواحدة لم تكن مطروحة في التصور الإسلامي، لأنهم كانوا يدركون خطر التقسيم والدول القائمة على أساس العرق، وقد فطن إلى هذا ضابط المخابرات البريطاني (دبليو. آر. هي(، فقال في كتابه (سنتان في كردستان ١٩٢٨١٩٢٠): "إن اليوم الذي يستيقظ الكرد وبوعي قوميّ ويتوحدون سوف تتفتت أمامهم الدولة التركية والفارسية والعربية وتتطاير كالغبار، ولكن مثل هذا اليوم لا يزال بعيد المنال".[15]

أُصِيبت الجهود الكردية للاستقلال في مقتل إثر اتفاقية (سايكس بيكو عام 1916م) حيث اجتمع وزراء الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية، ودارت بينهم مباحثات سرية حول الترتيبات المقبلة للشرق الأوسط، بعد أن أصبحت هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية وشيكة، وتضمنت الاتفاقية تقسيم تركة الدولة العثمانية، وبما أن القسم الأكبر من كردستان كان تحت السيطرة العثمانية، فقد شملها التقسيم، وهذا الوضع الجديد عمّق المشكلة الكردية، حيث تُعَدُّ معاهدة (سايكس بيكو) أول معاهدة دولية اشتركت فيها ثلاث دول كبرى، وحطمت الآمال الكردية في تحقيق حلمهم في تقرير المصير.

كما استطاعت (معاهدة لوزان 1924م) أن تلغي مشروعين كبيرين نصت عليهما (معاهدة سيفر 1920م)، وهما مشروعا الدولتين الأرمينية والكردية، فقد نصت اتفاقية سيفر على اعتبار أن أراضي المشروعين كردية وجزء من كردستان الشمالية، إلا أن (معاهدة لوزان) نصت على أن تتعهد أنقرة بمنح سكان تركيا الحماية التامة والكاملة، ومنح الحريات دون تمييز، من غير أن ترد أية إشارة للأكراد فيها، كما لم تشر إلى (معاهدة سيفر)، وعدَّ الأكراد هذه المعاهدة ضربةً قاسية ضد مستقبلهم ومحطمة لآمالهم.

ويبرز الانقسام الكبير بين الأكراد أنفسهم من خلال مساندة عدد كبير منهم الدولة التركية سياسيا وعسكريًّا، في إفشال (معاهدة سيفر) وإحلال (معاهدة لوزان) محلّها حتى برزت الدولة التركية الأتاتوركية قوية قادرة على مفاوضة بريطانيا وفرنسا.

ومهما يكن من أمر فقد أدى تحطيم مشروع الكيان الكردي في كردستان تركيا وقيام الجمهورية الجديدة القائمة على أساس القومية إلى نشوب ثورات كردية متلاحقة ضد السياسة التركية الجديدة، فقام الأكراد بسبع عشرة ثورة بدأت بثورة الشيخ سعيد بيران 1925م وانتهت بثورة سيد رضا في درسيم، وقد نتج منها تدفق هجرة كردية جماعية إلى سورية، قُدّر عددهم بحوالي (25) ألفاً، ما أدى إلى زيادة الوجود الكردي فيها بصورة ملحوظة، وقد توجهت معظم هذه الهجرات إلى منطقة الجزيرة السورية[16]

          بعد استقلال سورية في العام 1946م، وفي الفترة التي سادت فيها الديمقراطية في الحياة السياسية في سورية لم يكن هناك تمييز قومي واسع تجاه الكرد، فساهم الشعب الكردي بشكل واسع في بناء سورية، وفي دمشق ذاتها كان الكرد يلعبون دورًا سياسيًّا واجتماعيًّا مهمًّا، غير أنه مع بدء مرحلة الانقلابات ومجيء الديكتاتوريات، وتحديداً منذ الوحدة المصرية السورية أصبح الكرد يتعرضون للاضطهاد القومي بشكل واسع، وأصبح هناك تمايز قومي شديد.

ففي سورية تم تجريد 120 ألف كردي من جنسيتهم مع ذريتهم وأحفادهم من الذكور غير المواطنين خلال إحصاء عام 1962، بحجة أنهم من المهاجرين الأجانب، وحرمانهم من حقوقهم في الصحة والتعليم والعمل، إضافة إلى مشروع الحزام العربي الذي عمل عليه حزب البعث. والذي يراقب حركة التاريخ يلحظ هذا الاضطهاد الشديد وعمليات التهجير والملاحقة للأكراد، ويرى الأستاذ (أسعد شمسي) أن السبب يعود"إلى أن الشعب الكردي شعبٌ حيّ لم يرضخ للأنظمة القمعية التي تحكمه، حتى إنك لا تكاد تجد فترة من تاريخ الكرد منذ مئة عام - عند تشكل الدول القومية وتقسيم الكرد بين الدول الأربعة – دون ثورة أو انتفاضة هنا وهناك على أحد هذه الأنظمة، ولكن لم تكن تنتهي لصالحهم بسبب التآمر الخارجي أو بعض الخيانات التاريخية، مما يودي بالناس إلى الهجرة والتنقل هربًا من بطش الأنظمة".

الكرد والأحزاب الكردية في الثورة السورية

كغيرهم من الشعب السوري، عانى الكرد كثيرًا من نظام الأسد، وعاشوا في فترة حكمه مهمّشين ومحرومين من حقوقهم، وقد كانت لهم انتفاضة في عام 2004م، كما شارك عدد كبير منهم في الثورة السورية، وأكدوا انتماءهم لها، وأكدت الثورة في أكثر من مناسبة أنها لهم ولجميع فئات الشعب السوري، خاصة في جمعة (آزادي) في 20 أيار 2001م، فعمت المظاهرات السلمية مدن القامشلي وعين العرب وعامودا وعفرين وغيرها، متضامنة مع المدن المنكوبة.

يقول الأستاذ (أسعد شمسي):" كانت المناطق والمدن الكردية من أوائل المدن التي التحقت بركب الثورة السورية عام 2011م، وخاصة (عامودا والقامشلي ورأس العين) وغيرها، وكان لها حضور مميز أيام الثورة السلمية لا يخفى على أحد، لكن استطاع النظام كسب عدد من الأحزاب الكردية، وسمح لها بالسيطرة على المناطق الكردية لتجنب وقوعها بيد الكرد الثائرين مع بقية إخوانهم في المدن السورية الأخرى، فلجأ شباب الكرد إلى تشكيل كتائب في مناطق أخرى أو الانضمام إلى فصائل أخرى من الجيش السوري الحر".

 

والأحزاب الكردية المعارضة لمتكن قبل الثورة متفقة على رأي واحد، ولم تكن تملك برنامجًا للثورة، وظلت متباينة في رأيها حول الثورة السورية، وذلك تبعًا للعقائد والتوجهات التي تتبناها ولاختلاف الرؤى والأهداف فيما بينها، فوقفت الأحزاب مشككة أو محايدة باستثناء عدد من الأحزاب (آزادي، ويكتي، والبارتي، والديمقراطي الكردستاني، وحزب الإصلاح)، إضافة إلى تيار المستقبل الذي ناصر الثورة منذ أيامها الأولى، وكان يقوده (مشعل تمو) الذي اغتيل في 7 تشرين الأول 2011م. 

ومنذ الأشهر الأولى من الثورة بدأت التناقضات تظهر بين الأحزاب الكردية حول الموقف منها، وبدأ انقسام الأحزاب الكردية إلى فريقين أساسيين: فريق بمرجعية أوجلانية يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، ممثلا بمجلس غرب كردستان، وذراعه العسكرية قوات حماية الشعب (YPG)، وآخر بمرجعية بارازانية تقوده أحزاب الاتحاد السياسي إلى جانب 12 حزبا كرديا، ممثلين بالمجلس الوطني الكردي.

وقد بلغ عدد الأحزاب الكردية إبان الثورة السورية 40 حزبًا، أبرزها:[17]

كما يمكن القول إن هناك اتجاهين: الأوّل يمثله (المجلس الوطني الكردي) الذي تأسس في 26 تشرين الأوّل 2011م، ويميل إلى الثورة، والثاني يمثله حزب (PYD)الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي(PKK)، الذي يميل إلى النظام الذي سمح له باستئناف نشاطه السياسي، بعد أن كان محظورًا منذ تشكّله في 2003م.

اتجه حزب (PYD)نحو (هيئة التنسيق)، ثم علق وجوده فيها أوائل 2016م، بسبب الخلاف حول الانضمام إلى الهيئة العليا للمفاوضات، وموقف الهيئة الرافض للإدارة الذاتية، كما توجه نحو النظام، مستفيدًا من عدائه للثورة ولتركيا، ومستفيدًا من دعم الـpkk التركي بالأموال والسلاح والمقاتلين، وتسلم بالتعاون مع النظام السوري المقرّات المدنية والعسكرية في مناطق الأكراد، وأعلن الإدارة الذاتية للمناطق الكردية في عفرين وعين العرب والجزيرة السورية، وأعلن مشروع (روج آفا)، واستخدم وسائل الترهيب والقتل والاعتقال لأي معارض له، وعمل على  احتكار القرارين السياسي والعسكري وإنهاء التنسيقيات ووأد الثورة في المناطق التي يسيطر عليها، فهاجر معظم الأكراد الثوريين خارج المناطق الكردية متجهين إلى تركيا أو أوروبا، وبدأ عهد جديد من ديكتاتورية (PYD).

وأمّا (المجلس الوطني الكردي) فقد لجأ إلى السجالات مع المعارضة السورية حول (للامركزية السياسية)، و(الفدرالية)، وشعار (حق الشعب الكردي في تقرير مصيره) الذي رفضه المجلس الوطني السوري ثم الائتلاف من بعده، فحصروا الحقوق القومية باللامركزية الإدارية، وباللغة وممارسة التقاليد والطقوس الخاصة ضمن إطار دولة المواطنة. وقد حاولت (أربيل) المصالحة بين الطرفين حتى وجد المجلس الكردي نفسه داخل الائتلاف في أواخر2013م، وآخر احتجاجات المجلس الكردي كانت على (الهيئة العليا للمفاوضات) ووثيقة الإطار التنفيذي في مؤتمر لندن لأن الوثيقة تلغي حقيقة التعدد القومي، وتتجاهل الاعتراف وضمان حقوق الشعب الكردي القومية واللغوية والسياسية، كما ورد في بيان المجلس الوطني الكردي في 9 أيلول/ سبتمبر 2016م.

الأكراد بعد عملية غصن الزيتون:

حققت تركيا والثورة السورية مكسبًا عسكريًّا وسياسيًّا بعد تمكنها من انتزاع مدينة عفرين من قبضة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYDفي فترة قصيرة، وبخسائر محدودة، مما فتح الطريق لها للاتجاه شرقا نحو المناطق العربية التي تحتلها الميليشيات الانفصالية، وبذلك تبدأ علامات زوال خطر الفيدرالية في شمال سورية وتعود فكرة المواطنة إلى المواجهة عند الكرد والعرب وغيرهم.

كما تتبين حقيقة التحالفات الكاذبة التي عقدتها الميليشيات الانفصالية مع روسيا والنظام السوري، فعلى الرغم من مشاركتها في حصار حلب، وتسليمها إياه عددًا كبيرًا من المناطق إلا أن ذلك لم ينفعها، كما أن الروس الذين وفروا لها غطاءً جويًّا لاحتلال القرى العربية انسحبوا من مناطقهم بطريقة مهينة لها، وربما تفعل أمريكا ذات الشيء في منبج.

ولذلك ينبغي الاستفادة من التجارب السابقة التي مر بها الأكراد منذ عقود بعيدة، فهم كما يقول الكاتب التركي (كمال أوزتورك): "منذ أن رفعوا رؤوسهم لأول مرة في وجه الدولة العثمانية عام 1806م قادوا في المنفى مئات الحروب والتمردات ولم يستطيعوا أبدًا الوصول إلى الدولة الكردية التي وُعِدوا بهاقُتِل آلاف الأكراد، ونُفي الآلاف، وانتُزِعوا من أماكنهم وأوطانهماستخدمت أمريكا الأكراد لمواجهة صدام وحدثت مجزرة في حلبجة عام 1988م، وكان الألم الذي لا يُنسى من بين كل ما ذُكِر، والآن روسيا وأمريكا تستخدمان الأكراد مجدداً في كردستان السورية وتخدعهم بدولة كردية مستقلة".[18]

فهذه فرصة كبيرة لإجراء المراجعات والاعتراف بالأخطاء والعودة إلى الجذور الكردية المتمسكة بهويتها الوطنية والإسلامية، وفرصة للأحزاب الكردية الوطنية للحصول على الحقوق الكردية والمشاركة في المشروع السوري الوطني، وتوحيد الخطاب الكردي السوري الذي يكون كما يرى الأستاذ (أسعد شمسي):"بقطع الطريق على الأيادي الخارجية التي تتدخل في شؤون الأكراد، ولذلك فإن حلّ القضية الكردية يكون بالإقرار بالحقوق الكردية، وطرح خطاب وطني جامع لكل أطياف الشعب السوري بدون استثناء".

 

 

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------


[1] شعب قديم أصله من شرق أوروبا، استولى على إيران من الشمال الغربي للهند عام 2000 ق.م. وكان سببًا في تدهور حضارة السند،وكانت لغته صورة أولية من السنسكريتية، ويُطلق عليها الآرية.

[2]مدينة ماردين من الفتح العربي إلى سنة 1515م/921هـ

[3]مروج الذهب للمسعودي، 1/435

[4]تاريخ ابن خلدون، ج 3، ص 14

[5]تفسير الطبري، تح محمود شاكر، 18/465

[6]الأكراد تاريخ شعب وقضية وطن ص 16

[7]كتاب الملوك، وهو الملحمة الوطنية لبلاد فارس، ويشكل الكتاب ثقلا كبيرا بالنسبة إلى القوميين الفرس.

[8]المقدمة العربية لكتاب (شرفنامه) الفارسي ط القاهرة، سنة 1930.

[10]شرفنامه، لشرف خان البدليسي، 1/13.

[11]سير أعلام النبلاء 7/50 ط الرسالة

[12]ص 140- 141.

[13]معركة وقعت في 23 أغسطس عام 1514م في (جالديرانبين قوات الدولة العثمانية بقيادة السلطان )سليم الأولضد الصفويين بقيادة)إسماعيل الأول)، وقد انتهت بانتصار القوات العثمانية وفتحها مدينة (تبريز) عاصمة الدولة الصفوية،وأدت إلى وقف التوسع الصفوي لمدة قرن من الزمان، وجعلت العثمانيين سادة الموقف، وأنهت ثورات العلويين داخل الدولة.

[14]أحد شاهات إيران الصفويين الأقوياء، كان خلفًا لأبيه إسماعيل الأول، ولد في 22 شباط عام 1514م وتوفي في 14 أيارعام1576م

[15]ص: 36

[16]انظر مسألة أكراد سورية، ص 15 وما بعدها.

[17]الشعب الكردي السوري بين ثورة الشعب وصراع الأحزاب الكردية، المركز السوري للعلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية.

[18]تاريخ خديعة الأكراد وإغوائهم، كمال أوزتورك، مقال ترجمته تركيا بوست عن صحيفة يني شفق التركية. https://www.turkey-post.net/p-103404/


http://islamicsham.org