قال الغزاليّ رحمه الله: والمدح يدخله ست آفات، أربع في المادح واثنتان في الممدوح.
فأما المادح:
فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب قال خالد بن معدان من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه.
والثانية: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً.
الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه.
الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز، وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يُعصى الله تعالى في أرضه، والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح.
وأما الممدوح فيضره من وجهين:
أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان.
قال الحسن رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه جالسا ومعه الدرة والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر فقال رجل هذا سيد ربيعة فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال مالي ولك يا أمير المؤمنين قال مالي ولك أما سمعتها قال سمعتها فمه قال خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك.
الثاني: هو أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصرا فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح. (إحياء علوم الدين، بتصرف).
قال الشيخ عز الدين ابن عبدالسلام في قواعده: ولا تكاد تجد مداحًا إلا رذلاً ولا هجاءً إلا نذلًا.
عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَالَ: (لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ) رواه البخاري، مسلم.
قال المهلب: وإنما قال هذا، والله أعلم، لئلا يغتر الرجل بكثرة المدح، ويرى أنه عند الناس بتلك المنزلة، فيترك الازدياد من الخير ويجد الشيطان إليه سبيلا، ويوهمه في نفسه حتى يضع التواضع لله، وكان السلف يقولون: إذا أثنى على أحدهم: اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيرًا مما يظنون. وقال يحيى بن معاذ: العاقل لا يدعه ما ستر الله عليه من عيوبه بأن يفرح بما أظهره من محاسنه. (شرح صحيح البخاري لابن بطال).
عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كُنَّا جُلوساً عِندَ عُمر فَأثنَى رجلٌ عَلى رَجلٍ فِي وجهِهِ فَقال: "عَقَرتَ الرَّجلَ عَقَركَ الله" (رواه البخاري في الأدب المفرد).
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سَمِعتُ عُمر رضي الله عنه يَقولُ: "المَدحُ ذَبحٌ" قال: محمد يَعنِي إِذا قَبِلَها. (رواه البخاري في الأدب المفرد).
قال الغزالي رحمه الله: اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح.
وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: "لا يضر المدح من عرف نفسه وأثني على رجل من الصالحين فقال اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني.
وقال آخر لما أثني عليه اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته.
وقال علي رضي الله عنه لما أثني عليه: "اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون".
وأثنى رجل على عمر رضي الله عنه فقال: "أتهلكني وتهلك نفسك."
وأثنى رجل على علي رضي الله عنه في وجهه وكان قد بلغه أنه يقع فيه فقال: أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك (إحياء علوم الدين).
قال الغزالي: اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب:
السبب الأول: وهو الأقوى شعور النفس بالكمال فإن الكمال محبوب وكل محبوب فإدراكه لذيذ فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها.
السبب الثاني: أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر.
السبب الثالث: أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه لاسيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى وله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس.
السبب الرابع: أن المدح يدل على حشمة الممدوح واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر فإن الحشمة أيضا لذيذة لما فيها من القهر والقدرة.
فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ وقد تفترق فتنقص اللذة بها[. (إحياء علوم الدين(.
ما هو الواجب عليك إذا احتجت أن تمدح إنسانا؟
قد يسأل أحدنا عن إنسان لا يعلم عنه إلا الخير والصلاح فبماذا يجيب؟
علمنا النبي صلى الله عليه وسلم القصد في ذلك مع قول الحق، وأن يقول من سئل عن ذلك أَحْسِبُ فُلاَنًا صالحا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا.
عَنْ أَبِى بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ» مِرَارًا ثُمَّ قَالَ: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ) رواه البخاري.