حكم الاستفادة من البيوت والمزارع الخالية لإيواء النازحين والمهجرين
الكاتب : المكتب العلمي- هيئة الشام الإسلامية
الأربعاء 6 مايو 2015 م
عدد الزيارات : 2909

السؤال: نزحت أعداد كبيرة من اللاجئين بسبب جرائم النظام، ففتح لهم الناس بيوتهم واستقبلوهم، إلا أن الأعداد تتزايد، والأماكن أصبحت قليلة، ويوجد لدينا بيوت ومزارع رفض أصحابها فتحها أو رحلوا عنها بسبب الأوضاع الحالية، فهل يجوز لنا فتحها والاستفادة منها في إيوائهم؟ وهل يجوز لنا استخدام ما فيها من أدوات، أو أكل ما فيها من أطعمة، أو الانتفاع بثمار مزارعهم، أفيدونا جزاكم الله خيرًا .
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الأصل تحريم الاعتداء والانتفاع بأموال الآخرين إلا بإذنهم، واستثنى العلماء من ذلك حال الضرورة أو الحاجة الشديدة، وتفصيل ذلك كالآتي:
أولاً: صَانَ الإسلام أملاك الناس وأموالهم، وحَفِظَها لهم، وحرم الاعتداء عليها والتصرف فيها، إلا بطيب نفس منهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [البقرة: 188].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) رواه أحمد.
قال أبو المعالي الجويني –رحمه الله- في "غياث الأمم": "فالقاعدة المعتبرة: أن الملَّاك مختصون بأملاكهم، لا يُزَاحِم أحدٌ مالكًا في ملكه من غير حق مستحق".
إلى أن قال: "فالأمر الذي لا شك فيه: تحريم التَّسالُب والتَّغالُب ومدُّ الأيدي إلى أموال الناس من غير استحقاق".
و(التَّسالُب): أخذ المال خِلسة، و(التَّغالُب): أخذه بالغَلَبَة.

ثانيًا: الواجب على المسلمين في سوريا عمومًا، وأهالي المناطق التي لجأ إليها المنكوبون خصوصًا: الوقوف مع إخوانهم في محنتهم، وتأمين ما يحتاجونه إليه من مأوى ومطعم ومشرب، وهم مأجورون على ذلك إن شاء الله تعالى.
كما يجب على من هم خارج البلاد المبادرة إلى فتح بيوتهم طواعيةً بنفسٍ طيبة، وتأمين من يشرف عليها ممن يثقون به، ولهم على ذلك الأجر العظيم من الله تعالى.
فقد جاء في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ).
وهذا عام في تنفيس الكُرَب عن أي مسلم، فكيف لو كان من الضعفاء والمحتاجين؟
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) رواه مسلم.
فالمؤمن للمؤمن كالجسد الواحد؛ ما سرَّ أحدهما سرَّ الآخر، وما ساءَ أحدهما ساءَ الآخر، وكل واحد منهما عون لصاحبه في أمر الدنيا والآخرة، كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
وليحذر من يجد سعةً في ماله أو بيته أن يمنعه هؤلاء النازحين، كي لا يكون ممن توعدهم الله ووصفهم بمنع الماعون بقوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4-7].
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "أي: لا أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعارة ما يُنتفع به ويُستعان به، مع بقاء عينه ورجوعه إليه".
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى": "وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم... إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يَكُنُّهُمْ من المطر والصيف والشمس وعيون المارة."

ثالثًا: إذا وُجدت الحاجة الماسَّة والضرورة المُلِحَّة، فلا بأس من فتح البيوت أو المزارع المهجورة والخالية التي رفض أهلها فتحها ابتداءً، أو تعذَّر الاستئذان منهم؛ لأنَّ الضرورات تُبيح المحظورات، وفي فتح هذه البيوت حفظٌ للمهجَّرين من التَّشرَّد والضياع والهلاك .
قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119].
قال ابن القيم -رحمه الله- في "الطرق الحكمية": "فإذا قُدِّر أن قومًا اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه, أو النُّزول في خانٍ مملوك [الخان: النُّزُلُ أَوِ الْفُنْدُقُ], أو استعارةُ ثياب يستدفؤون بها, أو رحىً للطحن, أو دلوٌ لنِزَعِ الماء, أو قِدْرٍ, أو فأس, أو غير ذلك، وَجَبَ على صاحبه بذلُه بلا نزاع".
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ [أي دابة ترُكب زائدة على حاجته]، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ. فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ).).
وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد، أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال عام الرَّمادة حيث أصاب الناس مجاعة وشدة: "لَوْ لَمْ أَجِدْ لِلنَّاسِ مِنَ الْمَالِ مَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ أُدْخِلَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ عِدَّتَهُمْ [أي مثلهم في العدد]، فَيُقَاسِمُونَهُ أَنْصَافَ بُطُونِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِخَيْرٍ لَفَعَلْتُ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْلِكُوا عَلَى أَنْصَافِ بُطُونِهِمْ".
رابعًا: يجب المحافظة على ما في هذه البيوت من أثاث وممتلكات، ولا يجوز الانتفاع بشيء مما فيها إلا ما تدعو له الحاجة.
وأما الأطعمة سريعة الفساد، وما كان تافهًا يتساهل الناس فيه عادةً، فلا بأس بالانتفاع به؛ لأنَّ تلفها مَفسدةٌ للمال، والمحتاج أولى بذلك.
جاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي: " مَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاكِهِ وَاللَّحْمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْسُدُ إذَا أَقَامَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ لِرَبِّهِ [أي مالكه]، وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي عَامِرِ الْبَلَدِ أَوْ غَامِرِهَا [غير المزروع] ... وَأَمَّا مَا لَا يَفْسُدُ، فَلَيْسَ لَهُ أَكْلُهُ، فَإِذَا أَكَلَهُ ضَمِنَهُ".
وهذا وإن قاله العلماء في اللُّقَطَة التي لا يُعرَف مالكها؛ إلا أن المعنى موجود في الأطعمة التي تركها أصحابها بسبب النُّزوح أو السفر.
ويلحق بذلك: ما يمكن أن تمتدَّ له يد الفساد لو بقي مدة طويلة، أو بسبب تغير الجو.

خامسًا: أما الزروع والثمار: فالأصل حِفظِها وعدمُ الاعتداء عليها، إلا فيما رخَّص فيه الشرع من الأكل منها للمارِّ دون حمل شيء منها كالمارِّين في طريق السفر، أو النُّزوح.
لما روى الترمذي وابن ماجه واللفظ له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ، وَلا يَتَّخِذْ خُبْنَةً)، أي دون أن يحمل معه شيئًا في ثوبه.
وأما الثمار التي تركها أهلها ويُخشى إن لم تُؤكل أن تكون عرضة للتلف، فيجوز الاستفادة منها بقدر الحاجة.
أما جمع المحاصيل وقطفها للتصرُّف فيها بما يعود نفعه على الفقراء والمحتاجين، فهذا مرجعه للمجالس والهيئات في هذه المناطق، وليس ذلك للأفراد.
وكذلك الحكم في الحيوانات التي تركها أصحابها: يجوز الاستفادة مما تنتجه كالألبان، أو البيض.
أما ذبحها للأكل، فلا يجوز إلا في حال الضرورة، كالمجاعة، أو الخشية على موتها بسبب الجوع أو قصف النظام.
سادسًا: من سكن بهذه البيوت بسبب الضَّرورة والحاجة، فيلزمه عند القدرة أن يدفع لصاحب البيت أجرة المِثل عند جمهور العلماء؛ لأنَّ "الاضطرار لا يبطل حق الغير"، فالضرورة ترفع الإثم، ولا تسقط الضمان.
وفي حالة عدم مطالبة صاحب البيت بالإيجار، فلا يلزمهم شيء؛ لما يُعلم من تغليب جانب التسامح من الناس في مثل هذه الحالات الإنسانية.
وذهب بعض العلماء إلى أن الانتفاع بهذه الأمور في حال الضرورة يُسقط الإثم والضمان، فلا يلزمهم شيء، وهذا ما نرى أنه أرفق بحال الناس في مثل هذه الظروف.
قال ابن القيم –رحمه الله- في "الطرق الحكيمة": "لكن هل له أن يأخذ عليه أجرًا؟ فيه قولان للعلماء... ومن جوَّز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل".
وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية": "ويستثنى من هذا الأصل: الانتفاع بمال الغير حال الاضطرار، فإنه وإن كان مأذونًا شرعًا، لكنه يوجب الضمان عند الجمهور، عملا بقاعدة فقهية أخرى، هي: (أن الاضطرار لا يبطل حق الغير).
وذهب المالكية إلى عدم الضمان عملا بالأصل، وهو أن الانتفاع المباح لا يوجب الضمان".
وقال ابن تيمية –رحمه الله- في " الفتاوى": "فأما إذا قدر أنَّ قومًا اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانًا يأوون إليه إلا ذلك البيت، فعليه أن يُسكنهم، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يُعيرهم ثيابًا يستدفئون بها من البرد؛ أو إلى آلات يطبخون بها؛ أو يبنون أو يسقون: يبذل هذا مجانًا".
سابعًا: في حال الحاجة لاستعمال هذه المرافق من بيوت أو مزارع ونحوها، فلا بد من مراعاة الضوابط الشرعية في هذا الأمر، وهي:
1- وجوب إخلاء وتسليم هذه الدور والمزارع فورًا عند حضور صاحبها أو احتياجه لها، فالضَّررُ لا يُزال بمثله، وهو أحقُّ بماله.
قال ابن تيمية –رحمه الله- في " الفتاوى": "ومع حاجة رب المال المكافئة لحاجة المعتاض، فرب المال أولى؛ فإن الضرر لا يزال بالضرر، والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين".
2- أن هذه الضَّرورة تُقَدَّر بِقَدَرِها، ففي حال زوال الحاجة لهذه البيوت أو المزارع، لا يجوز البقاء فيها أبدًا.
والمقصود بانتهاء الحاجة وزوالها: إما انتهاء الخطر من الديار التي نزح منها وعودة أكثر الناس، أو عند توفر الملاجئ العامة والتي تفي بالغرض وتزيل الضرورة الحاصلة، فعندئذٍ لا يجوز المكوث بأملاك الغير مع وجود البديل العام، سواء كان هذا البديل مخيمات أو ملاجئ عامة أو مدارس أو غيرها، إلا بموافقة صاحب الدار.
وكذلك إذا اندفعت الضرورة بالسُّكنى في غرفة واحدة لا يجوز الانتفاع بسائر غرف البيت.
3- الضَّمان للتَّلفيات، ويشمل العبث أو التخريب للأبنية، أو الأثاث، أو الأجهزة، أو المزارع، أو الحيوانات: وهذا لأن الضرورة قد أباحت الاستفادة من السكن، ولا يحل له أن يتعداه لغيره إلا مع الضمان، ويكون بضمان المثل إن كان المتلف مثلياً، وضمان القيمة لما لا مثل له.
وأخيرًا :
يجب على الأهالي في هذه المناطق تكوين لجنة من الهيئات الشرعية، أو الإدارات المحلية، أو أعيان الحي، تشرف على هذا الأمر، وتكون مهمتها : تدوين أسماء الأسر المستفيدة من هذه الأملاك، والنظر في تقدير حال الضرورة من عدمها، ثم إخلاء هذه الدور عند تقديرهم لانتهاء الضرورة، وحصر التَّلفيات، أو تسجيل الملاحظات للاستفادة منها في حالة حصول مطالبة لحقوق أو نحوه .
نسأل الله سبحانه أن يرفع الكربة، ويزيل الغمة، وأن يعجل بالفرج، إنه سميع جواد كريم .


http://islamicsham.org