حكم المجالس والتشكيلات التي تحوي مبادئ تخالف الشريعة، والتعاون معها
الكاتب : المكتب العلمي ـ هيئة الشام الإسلامية
السبت 25 أبريل 2015 م
عدد الزيارات : 73587

السؤال:
تشكلت على السّاحةِ السّوريةِ مجالسُ وكياناتٌ سياسيةٌ معارضةٌ للنّظام، تنصُّ مواثيقُها على الدّعوةِ إلى الدّيمقراطيةِ والدّولة المدنية، ولا تُشير إلى تطبيق الشّريعة، فهل تُعدُّ بذلك مجالسَ كفريةً؟
وهل إذا شارك في تشكيلِها أو دعمِها أو التأثيرِ على بعض قراراتِها دولٌ كافرةٌ تكون بذلك مواليةً للكفّارِ، وخارجةً عن ملّة الإسلام؟
وهل يجوز العملُ فيها، والتّعاون معها؟ أو يجب محاربتُها والتّحذيرُ منها؟
أفتونا مأجورين. 


الجواب:  
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وبعدُ:
فالواجبُ على جميع المجالس والتّشكيلات والكيانات السّياسية والعسكرية وغيرها: أنْ تنطلق في قراراتها وأحكامِها مِن الشّريعة الإسلامية، فإنْ وُجد فيها ما يخالف ذلك فيجب مناصحتُها ودعوتُها إلى تصحيح مسارِها، ثمَّ يُقدَّرُ كلُّ انحرافٍ بقَدْرِه، فقد يكون كفرًا، وقد يكون دون ذلك، وأمّا التعاونُ معها فيما فيه خيرُ البلادِ والعبادِ فتحكمُه قواعدُ المصالح والمفاسد، وبيانُ ذلك كما يلي:

أولًا: أنزل الله هذه "الشريعة الإسلامية" لتكون حاكمةً ومهيمنةً على الفرد والمجتمع والدّولة في كافة شؤونها: الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وإقامةُ الشِّرعِ والحكمُ بما أنزل الله مِن مقتضيات الإيمان بالله، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
والحكمُ بما أنزل الله تعالى يعني إقامةَ الدّين، وتطبيقَ الشّريعة في جميع مناحي الحياة، مِن الدعوة إلى الله تعالى، وتعليمِ النّاسِ أمورَ دينهم، ورفعِ الجهلِ عنهم، والأمرِ بالمعروف، والنّهي عن المنكر، ومحاربةِ الظّلم والفساد، وردِّ الحقوقِ لأصحابها، وتحقيقِ الأمنِ للنّاس في دمائهم، وأعراضِهم، وأموالهم، وتحكيمِ الشّرع في شؤونهم الأسرية، والمالية، والقضائية، وعلاقةِ الدّولة بغيرها مِن الدّول، وتطبيقِ العقوبات المقرّرة شرعًا بحقِّ المعتدين والمجرمين، وغيرِ ذلك مِن الأمور التي هي مِن مهمّات الولاية العظمى.
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 14].
قال القاضي أبو بكر ابنُ العربي في "أحكام القرآن": "وكأنَّ المعنى: ووصّيناك يا محمّدُ ونوحًا دينًا واحدًا، يعني في الأصولِ التي لا تختلف فيها الشّريعةُ، وهي: التّوحيد، والصّلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والتّقرّبُ إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلّفُ إليه بما يردُّ القلبَ والجارحةَ إليه، والصّدقُ، والوفاءُ بالعهد، وأداءُ الأمانة، وصِلةُ الرّحِم، وتحريمُ الكفر، والقتلِ، والزّنا، والإذايةِ للخلق كيفما تصرّفت، والاعتداءِ على الحيوان كيفما كان، واقتحامِ الدّناءات، وما يعود بخرْمِ المروءات".
ومِن الخطأ في فهم تطبيق الشّريعة والحكم بما أنزل الله حصرُه في إقامة الحدود والعقوبات الشّرعية، بل قد يكون مِن تطبيق الشرّع تركُ إقامة الحدود في بعض الحالات، كما بيّناه في فتوى (هل تُقام الحدود والعقوبات في المناطق المحررة من سوريا في الوقت الحالي؟). 

فالواجبُ على جميع المجالس والتّشكيلات والكيانات السّياسية والعسكرية وغيرها: أنْ تنطلق في قراراتها وأحكامِها مِن الشّريعة الإسلامية، وأمّا خلوُّ مواثيقِ هذه المجالس مِن النصِّ على تطبيق الشّريعة فلا يكفي للحُكمِ عليها بالمخالفةِ، فضلًا عن تكفيرِها؛ وإنّما الواجبُ ألا تتضمّنَ ما يخالفُ الشّرعَ.

ثانياً: إقامةُ الشّريعةِ وتطبيقُها يكون بحسب القدرةِ والاستطاعة، والموازنةِ بين المصالح والمفاسد، لا سيما في زمن الضّعفِ، وعدمِ التّمكين، عملًا بقاعدة: (تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما)، و(دفع أعظم المفسدتين باحتمال أخفِّهما).
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" عن تولي يوسفَ عليه السلام على خزائن مصر: "وكذلك يوسفُ كان نائبًا لفرعونِ مصرَ، وهو وقومُه مشركون، وفعَلَ مِن العدل والخير ما قَدَر عليه ، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان".
وقال في "منهاج السنَّة النبوية" عن النّجاشي: "وكثيرٌ مِن شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دَخل فيها؛ لعَجزِه عن ذلك ... ونحن نَعلم قطعًا أنه لم يكن يُمْكِنه أنْ يحكُمَ بينهم بحُكمِ القرآن... والنّجاشيُّ ما كان يُمكنه أن يحكم بحكم القرآن; فإنَّ قومَه لا يقرُّونه على ذلك ، وكثيرًا ما يتولّى الرجلُ بين المسلمين والتّتار قاضيًا -بل وإمامًا- وفي نفسه أمورٌ مِن العدل يريدُ أنْ يعملَ بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك مَن يمنعه ذلك، ولا يكلّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعها".
وقال في "مجموع الفتاوى" أيضًا: "فمَن ولي ولايةً يقصد بها طاعةَ الله، وإقامةَ ما يمكنه مِن دينه، ومصالحِ المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه مِن الواجبات، واجتناب ما يمكنه مِن المحرّمات؛ لم يؤاخذ بما يعجِزُ عنه؛ فإنّ توليةَ الأبرار خيرٌ للأمّة مِن توليةِ الفجّار".
ومما لا شكّ فيه أنَّ الشّعبَ السّوريَّ يمرُّ بمرحلةِ استضعافٍ، وعدمِ تمكينٍ لأهلِ الحق، وتسلّطٍ لأهل الباطل، فالواجبُ العملُ بالشّرع حسب الطّاقةِ والوسعِ، وصيانةُ الحقوقِ والحرياتِ لعامّة الناس، وتمكينُهم مِن إقامة مصالحهم الدّينية والدنيوية، وإن وجدت بعضُ المحاذيرِ والمخالفاتِ التي تتعذّرُ أو تعسرُ إزالتُها، مع بذل الوسعِ في المناصحةِ، وتكميلِ إقامة الدّين.

 

ثالثاً: مصطلحاتُ "الدّيمقراطية" و"الدّولة المدنية" تدلُّ في أصلِ نشأتها على أمورٍ مخالفةٍ للشرعِ إلا أنّها صارت تُطلق ويراد بها عدة معانٍ.
فتطلق "الديمقراطية" ويراد بها أحد أمرين:

الأول: معنىً فلسفيٌ عقدي، يجعل التّشريعَ حقًّا للعبادِ مِن دون الله تعالى، يجيزُ لهم تحليلَ الحرام، وتحريمَ الحلال، واستبدالَ الأحكام الشرعية بأخرى وضعية.

الثاني: معنىً إجرائي يتعلَّق بأدواتٍ يُراد منها تحقيقُ العدالة، ومنعُ الاستبداد، كآلياتِ تعيينِ الحكّام والولاة، والرّقابةِ عليهم، ومحاسبتهم، وعزلهم عند الاقتضاء، ونحو ذلك.

فالمعنى الأول مصادمٌ لأصل الدين، مناقضٌ لعَقدِ الإسلام، وأمّا الثاني فمحلُّ اجتهادٍ ونظر.

كما تُطلق "الدّولةُ المدنية" ويرادُ بها معانٍ مختلفة:
الأول: الدّولة التي ليس لها مرجعيةٌ دينية، وهذا ما يقصده كثيرٌ مِن العلمانيِّين والمستغرِبين ونحوهم، وقد ظهر هذا المفهوم ردةَ فِعلٍ على الدّولةِ الدّينية "الثّيوقراطية" التي تقوم على نظريةِ (الحقّ الإلهي) في الحكم، وتجعل الإمامَ حاكمًا باسم الإله .

والثاني: الدولة المتحضِّرة التي تنتشر فيها مظاهرُ الحضارة العمرانيَّة والثقافيَّة.

والثالث: الدولة المقابلة للدّولة العسكريَّة القمعيَّة.

فالأولُ معنىً باطلٌ، ومناقضٌ للدّين؛ إذ إنّ الإسلامَ وإنْ كان لا يقرُّ المفهومَ الثّيوقراطي للدّولة الذي يجعل الحاكمَ في مقام الإله، لكنه يجعل مرجعيةَ الدّولةِ في كلِّ شؤونها إلى الشّريعة.

وأما المعنى الثاني والثالث: فلا إشكالَ فيهما.


وبسبب اشتمالِ لفظَي "الديمقراطية" و"الدولة المدنية" على معانٍ باطلةٍ، وأخرى محتملة، فإنَّه لا بدَّ مِن الاستفسار مِن قائلها عن مرادِه منها، وهو المنهجُ الحقُّ في التّعاملِ مع (الألفاظِ المجملة).
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى": "وأمّا الألفاظُ التي ليست في الكتاب والسنّة، ولا اتّفق السّلفُ على نفيِها، أو إثباتها، فهذه ليس على أحدٍ أنْ يوافقَ مَن نفاها، أو أثبتَها حتى يستفسرَ عن مرادِه: فإنْ أراد بها معنى يوافق خبرَ الرسول صلى الله غليه وسلّم أقرّ به، وإنْ أراد بها معنىً يخالف خبرَ الرّسول صلى الله عليه وسلم أنكره".
ونؤكّد على هجرِ هذه الألفاظِ، وعدم استخدامِها حتى لو قُصد بها معانٍ صحيحةٌ؛ لما تتضمنه مِن تلبيسٍ، واحتمالٍ للمعنى المحظور، وأنْ تُستبدل بالألفاظ الشّرعيةِ، أو التي لا لبسَ فيها.
قال ابنُ القيّم في "الصواعق": "فأصْلُ ضلالِ بني آدم مِن الألفاظ الـمُجْمَلةِ، والمعاني المشتبهة".


رابعاً: لا يجوزُ الحكمُ بالكفرِ والرّدّةِ على كلِّ مَن نادى بـ "الدّيمقراطية" أو "الدولة المدنية وذلك لسببين:
الأول: أنَّ هذه الألفاظَ دخلها شيءٌ مِن الإجمال والإيهام، مما جعلها تحتمل معانيَ مختلفةً، منها ما هو كفرٌ، ومنها ما ليس كذلك، ولذلك لا يجوز جعلُها مناطًا للحكمِ بالكفر.
بل مناطُ الكفر الذي وردت به النّصوصُ هو: "الدّعوةُ لجعل التّشريعِ والتّحليلِ والتحريمِ حقًا لغير الله"، ولا يلزم أنْ يكون كلُّ مَن ينادي "بالدّيمقراطية" أو "الدّولة المدينة" ممّن يقول بهذا.
و الثاني: أنّ هذا البابَ قد دخله كثيرٌ مِن الشّبهاتِ، مع إلباسِ هذه المصطلحاتِ لَبوسًا شرعيًا؛ فأصبح التفريقُ بين هذه المعاني دقيقًا
خفياً،لم يستفض به العلمُ ). 

ولم يشتهر مع خطورة شأنِه، ولا يزال يخفى حتى على بعضِ الفضلاءِ، فيطلقه بعضُهم ويريد به معنىً آخر،وقد يقع في المعنى الباطل بتأويلٍ، أو جهلٍ.
ولذلك لا يمكن التكفيرُ بمثل هذه الألفاظِ المجملة، والعباراتِ المحتملةِ مع قيام الشّبهاتِ القوية، وخفاءِ المقصود، ودقّة التفريق بين المعاني التي يُعبّرُ عنها بتلك الألفاظ.
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى": "وليس لأحد أنْ يكفِّر أحدًا مِن المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجَّةُ، وتبين له المحجَّة، ومَن ثبت إسلامُه بيقينٍ لم يَزُل ذلك عنه بالشّكِّ؛ بل لا يزولُ إلا بعد إقامةِ الحجّةِ، وإزالة الشّبهةِ".
وقال في "منهاج السنة": "المتأولُ الذي قصدُه متابعةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لا يكفرُ، بل ولا يفسقُ إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهورٌ عند النّاس في المسائل العملية [يعني الفقهية]، وأما مسائلُ العقائدِ فكثيرٌ مِن النّاس كفّرَ المخطئين فيها ، وهذا القولُ لا يُعرفُ عن أحدٍ مِن الصّحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحدٍ مِن أئمةِ المسلمين، وإنما هو في الأصلِ مِن أقوالِ أهل البدع، الذين يبتدعون بدعةً، ويكفّرون مَن خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية".

وقال الشيخ عبدُ الرحمن السّعدي في "الإرشاد في معرفة الأحكام": "إنّ المتأوِّلين مِن أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسولِ صلى الله عليه وسلم، واعتقادِهم صدقَه في كلِّ ما قال، وأنَّ ما قاله كان حقاً، والتزموا ذلك، لكنّهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دلّ الكتابُ والسّنّةُ على عدم خروجِهم مِن الدين، وعدمِ الحكمِ لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابةُ رضي الله عنهم والتابعون ومَن بعدهم مِن أئمة السلف على ذلك".


خامساً: اشتمالُ مجالسَ وكياناتٍ على أصولٍ كفريةٍ لا يلزم منه الحكمُ عليها بأنّها طوائفُ كفرٍ وردّةٍ؛ فقد رأينا أهل العلم مع تقريرهم لقيام بعض الفرق على أصول كفرية، كالمعتزلة وغيرهم إلا أنهم لم يجزموا بتكفيرها.
بل لم يحكموا على دولٍ وحكوماتٍ تبنّت هذه العقائدَ بالكفرِ والردّةِ، كحال الإمام أحمدَ مع الخلفاء العباسيين الذين دعوا إلى القول بخلق القرآن وامتحنوا الناس في ذلك وسجنوا العلماء وقتلوا بعضهم.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحّم عليهم، واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبيّن لهم أنهم مكذبون للرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأوّلوا فأخطأوا، وقلّدوا مَن قال لهم ذلك".
ولو سُلّم جدلًا بكفر بعض هذه المجالس أو الكيانات: فلا يلزم مِن ذلك الحكمُ على أفرادها بالكفر والرِّدة، فإن المسلم المُعيّن لا يحكم بكفره إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع.
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" : "القولُ قد يكون كفرًا فيُطلق القولُ بتكفير صاحبه ، ويقال : مَن قال كذا فهو كافرٌ ، لكنّ الشّخصَ المُعيّنَ الذي قاله لا يُحكم بكفرِه حتى تقوم عليه الحجةُ التي يكفر تاركُها".
وقال ابنُ أبي العِزِّ الحنفي في "شرح الطحاوية": "الشَّخصُ المُعيَّن يمكنُ أن يكونَ مجتهدًا مخطِئًا مغفورًا له، أو يمكن أنْ يكونَ ممّن لم يبلغْه ما وراء ذلك مِن النصوص، ويمكن أن يكونَ له إيمان عظيم، وحسنات أوجبتْ له رحمة الله... ثمَّ إذا كانَ القول في نفسِه كفرًا، قيل: إنَّه كفر، والقائل له يَكْفُر بشروطٍ، وانتفاءِ موانع".


سادساً: تلقِّي هذه المجالس للدعم من الدول الغربية، أو تأثر قراراتها بها، لا يحتّم اتهامها بالعمالة والولاء للكفار، فضلاً عن تكفيرها، فعلاقةُ هذه المجالس بتلك الدّول تحكمُه ظروفُ الوقتِ مِن الاستضعاف، وعدمِ التّمكين، ويدخلُ في تحصيلِ المصالح، وتقليلِ المفاسد، وهو مِن موارد الاجتهاد والنّظر.
والتعاملُ مع الكفّارِ فيما فيه تحقيقُ مصلحةٍ، أو دفعُ مفسدةٍ، له شواهدُ كثيرةٌ مِن سيرة النّبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل الرسولُ صلى الله عليه وسلم في جوار عمّه أبي طالب، ثمّ في جوار الـمُطعِم بن عَدي، ودخل أبو بكر الصّديق رضي الله عنه في جوار ابنِ الدَّغِنة، ودخلت خُزاعةُ [وهم مشركون] في حلف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية.
بل لو خلت العلاقةُ من هذه المقاصد، فإنها لا تكون كفرًا إلا أن تتضمن الرّضا عن دينِهم، أو تصحيحَ مذهبهم، أو حبَّ ظهورِ الكفر على الإسلام، ونحو ذلك، وينظر فتوى (هل موالاة الكفار كفر بإطلاق؟ ).

 

سابعاً: الدخولُ في الكيانات والمجالس التي تشتمل على مخالفات شرعية – ولو وصلت إلى حدّ الكفر – أو التعاونُ معها: ليس محرّمًا على كلِّ حالٍ، بل يكون الحكم فيه مبنيًا على حال الشخص وقصدِه، ومدى ما يحقّقُ مِن مصالحَ، ويدفع مِن مفاسد.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة عشرة لعام 1428هـ الموافق 2007م حول موضوع مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين:
"1- مشاركةُ المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية مِن مسائل السّياسة الشّرعية التي يتقرر الحكمُ فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلفُ باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال".
ثم ذكروا مِن ضوابط المشاركة:
"1-أنْ يقصد المشاركُ مِن المسلمين بمشاركته الإسهامَ في تحصيلِ مصالح المسلمين، ودرءِ المفاسد والأضرار عنهم.
2- أن يغلبَ على ظنِّ المشاركين مِن المسلمين أنّ مشاركتَهم تُفضي إلى آثارٍ إيجابيّة، تعودُ بالفائدة على المسلمين في هذه البلاد؛ مِن تعزيز مركزهم، وإيصالِ مطالبهم إلى أصحاب القرار، ومديري دَفَّةِ الحكم، والحفاظِ على مصالحهم الدّينية والدّنيوية.
3- ألا يترتب على مشاركة المسلم في هذه الانتخابات ما يؤدّي إلى تفريطِه في دينِه".
وسبق نقلُ كلامِ أهل العلم في ولاية يوسف عليه السلام، والولاية تحت التّتار.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في "تفسيره": "فعلى هذا؛ لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفَّار، وعمِلوا على جعْل الولاية جمهوريَّةً يتمكَّن فيها الأفرادُ والشعوب مِن حقوقهم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، لكان أَوْلَى مِن استسلامهم لدولةٍ تَقضي على حقوقهم الدِّينيّة والدُّنيويّة، وتحرِصُ على إبادتها، وجعْلِهم عملةً وخدمًا لهم، نعمْ إنْ أمكن أنْ تكون الدولةُ للمسلمين وهم الحُكَّام، فهو المتعيِّنُ، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبةِ فالمرتبةُ التي فيها دفْعٌ، ووقاية للدِّين والدُّنيا مُقدَّمةٌ، والله أعلم".
ولا يلزم مِن الدّخول في هذه المجالسِ، أو التعاون معها الرضا بما فيها من مخالفات؛ فإنّ الرضا أمرٌ زائدٌ عن مجرد الفعل.
ومن الأدلة على ذلك
: قولُه تعالى: {وَقَدْ نزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكفرُ بهَا ويُسْتَهْزأُ بهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيرِه إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].
قال السّمعاني في "تفسيره": "أمّا إذا قعد معهم، ورضي بما يخوضون فيه، فهو كافرٌ مثلُهم، وهو معنى قوله: {إِنَّكُم إِذا مثلهم}. وإنْ قعد، ولم يرضَ بما يخوضون فيه، فالأولى أنْ لا يقعد، ولكن لو قعد كارهاً، فلا يَكفر".
وقال البغوي في "تفسيره": "{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي: إنْ قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفّارٌ مثلُهم".
فدلت الآية على أن الرضا أمر زائد عن القعود، قد يكون معه وقد لا يكون.


ثامناً: الدّخولُ في هذه الكياناتِ والمجالسِ، أو التعاملُ معها قد يكون سببًا لتحصيلِ جملةٍ مِن المصالح منها:
1-نصرةُ الشّعب المظلوم، وإغاثةُ الملهوفين والمحتاجين
، والإسهامُ في التخفيف عنهم.
وقد اجتمعت بطونُ كفار قريش في الجاهليةِ بمكةَ، فتحالفوا في دار عبد الله بن جُدعانَ على ردّ المظالم، وأنْ لا يَظلم أحدٌ إلا منعوه، وأخذوا للمظلومِ حقَّه.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقولِه: (لقدْ شَهِدتُ في دارِ عبدِ اللهِ بنِ جُدعانَ حِلفًا ما أُحبُّ أنّ لي به حُمْرَ النَّعمِ، ولو أُدعى به فِي الإسلامِ لأجبتُ) رواه البيهقي في السنن.
فهذا التّحالفُ وافقه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الإسلام وأحبّه، وأخبر أنه لو دُعي إليه مجدّدا لأجابه؛ لموافقته لما يدعو له الإسلامُ مِن نصرةِ المظلومين.
قال الماورديُّ رحمه الله في "الأحكام السلطانية": "وهذا وإنْ كان فعلًا جاهليًا دعتهم إليه السياسةُ فقد صار بحضورِ رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وما قاله في تأكيدِ أمرِه حكمًا شرعياً، وفعلًا نبويًا".
وقال ابنُ القيم في "زاد المعاد": "إنّ المشركينَ وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرًا يعظّمون فيه حُرمةً مِن حرمات الله تعالى أُجيبوا إليه، وأُعطوه، وأُعينوا عليه، وإن منعوا غيرَه، فيُعاوَنون على ما فيه تعظيمُ حرمات الله تعالى، لا على كفرِهم وبغيِهم، ويُمنعون ممّا سوى ذلك فكلُّ مَن التمس المعاونةَ على محبوبٍ لله تعالى، مُرْضٍ له أُجيب إلى ذلك كائنًا مَن كان، ما لم يترتّب على إعانته على ذلك المحبوبِ مبغوضٌ لله أعظمُ منه، وهذا مِن أدقّ المواضع، وأصعبِها، وأشقّها على النّفوس".

2- حمايةُ العاملينَ في المجال الثّوري.
قال تعالى حاكيًا قصةَ قوم مدين مع شعيب عليه السلام: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}. [هود91-92].

قال الشنقيطي في "أضواء البيان" :"وهذه الآياتُ القرآنية تدلُّ على أنّ المسلمين قد تنفعُهم عصبيةُ إخوانِهم الكافرين" ويقصد بإخوانهم: إخوانَهم في النّسب؛ لأنهم كانوا مِن بني قومهم.
وقال السعدي في "تفسيره" مبيّنًا بعض فوائد السورة: "وأنّ هذه الروابطَ التي يحصل بها الدّفعُ عن الإسلام والمسلمين لا بأسَ بالسّعي فيها ، بل ربّما تعيّن ذلك؛ لأن الإصلاحَ مطلوبٌ على حسب القدرة والإمكان".

3- المشاركةُ في صنع القرار، والتّخفيفُ مِن الفساد بقدر الاستطاعة.
وقد سُئل ابن تيمية عن رجل متولٍ ولاياتٍ، وعليه التزاماتٌ بأخذ المكوسِ المحرمة، ولا يستطيع منعَ كلِّ المظالم، مع اجتهاده في ذلك قدر الاستطاعة.
فقال: "إذا كان مجتهدًا في العدل، ورفع الظلم بحسب إمكانه ، وولايتُه خيرٌ وأصلُح للمسلمين مِن ولاية غيرِه، واستيلاؤه على الإقطاع خيرٌ مِن استيلاء غيره كما قد ذُكر : فإنه يجوز له البقاءُ على الولاية والإقطاع، ولا إثمَ عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضلُ مِن تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضلُ منه، وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيرُه قادرًا عليه ، فنشرُ العدل بحسب الإمكان، ورفعُ الظلم بحسب الإمكان فرضٌ على الكفايةِ، يقوم كلُّ إنسانٍ بما يقدر عليه مِن ذلك إذا لم يقم غيرُه في ذلك مَقامه، ولا يُطالب والحالةُ هذه بما يعجِز عنه مِن رفع الظّلم، وما يقرّره الملوكُ مِن الوظائف [الضرائب] التي لا يمكنُه رفعُها لا يُطالبُ بها".


وأخيرًا:
فإنّنا نذكّر هذه المجالس والقائمين عليها: أنْ يكون هدفَهم وغايتَهم تطبيقُ شرع الله ، والعملُ على تحقيق المصالح الفعلية للبلاد والعباد، وتجنّبُ المحاذير المفسدة للدّين والدنيا، وألا يدفعهم الحفاظُ على كياناتهم إلى ارتكاب ما يخالف الشرعَ، أو الافتئات على النّاس بفرض برامجَ وأحكامٍ لا يرضونها.
وليُعلم أنّ طريق المشاركةَ والإصلاحَ السّياسيَ ليس بديلًا عن واجبِ بناء الأمّة على الإيمان والعمل الصالح، والأخلاق الفاضلة، والدّعوة إلى الله.
كما نُذكّر إخوانَنا الثائرين والمجاهدين، أنْ يفرقوا بين المأمول والممكن، وألا يستعجلوا قطف الثمار، وأن يتفكروا في عواقب الأمور ومآلاتها.
نسأله تعالى أنْ يهيئ لبلادنا أمرًا رشداً، وأن يولّي عليهم خيارهم، ويكفيهم شر شرارهم، وأن يهدي ضالّ المسلمين.
والحمد لله رب العالمين.

لتحميل المرفق اضغط هنا 

 

 


http://islamicsham.org